الثلاثاء 2023/12/19

آخر تحديث: 13:22 (بيروت)

محمود وهبة...دخول أماكن مألوفة أصعبُ من دخول أخرى مجهولة

الثلاثاء 2023/12/19
محمود وهبة...دخول أماكن مألوفة أصعبُ من دخول أخرى مجهولة
increase حجم الخط decrease
صَدَرَت حديثاً للشاعر محمود وهبة، مجموعته الشّعريّة "غرفٌ قليلةُ الحيلةِ"، عن دار راية للنّشر، بعد ديوانين له بالعربيّة ("غلامٌ يطارِدُ مجرّةً" و"ليسَ حبّاً بل دعابةً") وديوان باللّغةِ الفرنسيّة ("Une Rose Bruyante" وردة نكدة). ويبدو للوهلة الأولى أن وهبة يكملُ سلسلةً خفيّةً بين مجموعاته الشّعريّة، تتّسمُ بأفقٍ أوّليّ شاسع بحجم مجرّة، ليتضاءل شيئاً فشيئاً مع اختفاء هالات المجد والتّعظيم حول الحبِّ وبراءة الوردة، ليرسوَ مسجوناً بين غرفٍ معدودةٍ ضاغطةٍ ومُحْكَمَةٍ إذ لا بصيص نور يخرج من عنوان ديوانه الأخير.

الذّاتيّة الشّفافة
إن الغرف التي تنضوي فيها قصائد وهبة، غرفٌ تغيّرتْ عليه، خسرتْ أجزاء منها وأفراداً وخسرتْ وهبة نفسه لوقتٍ طويلٍ. فالرّاجعُ إلى "بيته" الوجدانيّ، قلّما يجده على هيئته السّابقة. لكنّ وهبة، لا يدخلُ في معالجة هذه التّغيرات من منظارٍ موضوعيّ، إذ يلاحظها بعينيه، تاركاً أساليب التّفسير والتّشريح الفلسفيّ والنّفسيّ خارجَ عُدّتِهِ اللّغوية. ففي مشاهداته، يجدُ ذاته أوّلاً، ليكمل منها، ويَعُدَّ ما نَقُصَ من لحظات وأشخاص وأماكن بعد الزّيارة الأخيرة له. وتشكّل هذه التّغيرات من جهّة أخرى، علامةَ استفهام على تأثير الشّاعر فيها، ودوره، إن وُجِدَ، في تسهيلها أو عرقلتها، أو فتح مجالاتٍ أخرى لها. وما يدعم هذا الافتراض، وضعيّة المذنب الذي يبذل قصارى جهده، ليبرّئ نفسه من مسؤوليّته عن هذه التّحولات القاسية من جهة، وليقدّم نفسه، من جهة أخرى، ضحيّةَ تناسج عظيم لأقدار لم يلاحظ أثرها المدمّر في كيانه الوجدانيّ إلّا حينَ عادَ ليتفقّد ما تبقّى من عواميد ذكرياته.

إن الحميميّة الظّاهرة في كلّ تفصيل من هذه المجموعة الشّعريّة، من عناوين قصائدها، إلى الذّكرياتِ المحدّدة والضّيقة، التي يمكن فقط لمن يعرفها أن يفهمها، ولمن لا يعرفها أن يتخيّل على راحته، هذه الحميميّة تنقّي ذاتَ وهبةِ من أيّ خطيئةٍ. هو المعصومُ من النّسيانِ والإهمال والملعونُ بالذّكريات والنّوستالجيا والآثار الأبديّة في روحه، يروح ويجيء في دوائر من أسفٍ ويأسٍ، حتّى دَخَلَتْ غرفه فيه فصارَ هو قليل الحيلةِ. وهذه الأخيرة التي يذكرها وهبة مرّة واحدةً في مجموعته كاملةً، تعادُ في كلّ سطرٍ من كلّ قصيدةٍ، أمام هذا الهول الكبير من الحميميّة والبراءة، حيث لا مكانَ لأيّ ذنبٍ أو خطيئةٍ على يديه. كأنّ وهبة حبس يديه في أصفادٍ من حنين ويأس، ورفع العشرة خلال مرور الأيّام والمآسي. 

لم يكتفِ وهبة بالتّشديد على تبرئته من خلال إيضاحها إمّا بعبارات صريحة وإمّا برموز ترسمها جليّة وبصورة مباشرة في أذهان القرّاء، بل أضاف إلى حالته، وحالة كلّ من معه رونقَ الخفّة ("جسده يرتمي على الأرض مثل خرقة، أو مثل بالون هيليوم".) وهذه الأخيرة مرتبطة بقلّة الحيلة. فالمربوط بذاكرته، الممنوعُ من الحياةِ، لا أثرَ له، لا مسؤوليّة يتحمّلها في خراب العالم، كتفاهُ من ورق أبيض ينتظرُ من يكتبُ عليه ملاحم ويهرب. يمكن لوهبة أن يهرب إلى داخل هذا الرّبط المتين، ليقي نفسه من المساءلة من جديد كما أشرنا في السّابقة، ويمكن لهذه الخفّة ألّا تكون بريئة، وتكون ثقلاً من نوع آخر، يمنعُ عيونَ الجميع من المرور إلى ذاتِ الشّاعر الضّائعة.

ضياعٌ على وجهِ التّحديد
دخول أماكن مألوفةٍ أصعبُ من دخول أخرى مجهولة. فالذّاكرةُ حين تُحَكُّ، تفترشُ المخيّلةَ شوكاً، تضرب الخلايا الخاصّة بالوعي، ليدخل الإنسانُ هذياناً بطعمِ الحنين والضّياعِ معاً. إنّ وهبةِ، في كتابته إلى شلّة من الغائبين عنه، أكان بالموت أم بالمسافات، فتح على نفسه أبواباً، يبدو أنّه لم يكن قادراً على إغلاقها من جديد، فَجَرْفُ لحظاتٍ وعادات وتخيّلات سحقه حتّى الكلمة الأخيرة، حتّى رمى القلم وترك القصيدة وشأنها. تشبه هذه الحالةُ، خزانةٌ مُلِئَتْ بالثّياب القديمة والجديدة والشّـتويّة والصّيفيّة، حتّى استحال إغلاقها باحكام، وبعدَ عجيبةٍ مفاجئةٍ، تمّ ذلك. ولكَ أن تتخيّل هذا الكمَّ من الفوضى والخراب والتبعثر الذي قد ينشأ في حال قرّر أحدٌ ما فتحها من جديد. 

إن الضّياع الذي يواجهه وهبة في كلّ غرفه، ينشأ من الفسخ الشّاسع بين الواقع الجغرافيّ والوجدانيّ من جهة وبينه من جهة أخرى. فعلى الصّعيد الجغرافيّ، صحيحٌ أن الأمواتَ أقرب منّا إلينا، وكلمةٌ واحدةٌ تكفي لاستحضار جيوش منها، إلا أنّها بعيدةٌ عن العين والجسد، وهذا البعدُ هو الوحيد الذي يمكن احتسابه، ولو بشكلٍ غريبٍ وخياليّ. وهنا يجدُ وهبة نفسه أمامَ مسافات لانهائيّة، وعينين لا تقدران أساساً على النّظر إلى ما هو أبعدُ من حنينه وجسده الضّائع كإبرة في كومة قشّ. إنّ الضّياع في هذه الحالة، ليس إلّا جواباً سريعاً على كلّ ما تطلبه الحياةُ من معجزات وتحوّلات ضخمةٍ في لحظة واحدةٍ. أما على الصّعيد الوجدانيّ فإنّ وهبه يقع في فخّ الانسيابِ خلفَ ذكرياته، والدّخول معها إلى غرفه العديدة، لتغلق الباب عليه ويبقى وحده عالقاً هناك. فالضّعفُ الذي يتكوّنُ على جبهةِ وهبة مع توالي القصائد، يشبه قشرةَ ثلجٍ على شَعْرِ امرأةٍ خرجتْ من العاصفة. لكنّه على عكسها، خرج من عاصفة ليدخل في أخرى، وهكذا دواليك. فالصّورُ الفَرِحَةُ من شأنها أن تخفّف على الشّاعر شدّة ألم الانسلاخ عن طبيعة الأشياء وهيئتها المألوفة، لكنّ وهبة يكمل خوض معاركه مع أشباحه بالأسلحة نفسها. ما نفعُ ذلك، وعدوّكَ يعرفُ حِيَلَكَ قبل أن تبدأ؟

أمام سديم الضّياع والاستغراب هذا، والبراءة المشكوك بأمرها، يتعبُ وهبة من إعادة التّعبير عن إحباطه لنا، ليدير ظهره إلى زاوية في إحدى غرفه، ويطلب تعزية ما، كمن يرقصُ رقصة استحضار المطر. 

تعزيةٌ في الخارج؟
البريء الحقيقيّ يبحث عن تعزية ما، ظاهريّة كانت أم لا، مُشْبعةً أم مجحفةً بحقّ مآسيه، لكنّه دائماً يعودُ إلى ذاته ليدخل عالماً آخر من عوالمه طلباً لها. لكنّ عمليّة البحث التي يندفع فيها وهبة من فترة إلى فترة، من قصيدةٍ إلى قصيدةٍ، تتركّز على أهدافٍ خارج ذاته، لا يملك أدنى سلطة عليها، وقد تبيّن لنا من محاولاته السّابقة أنّها ستبوء حتماً بالفشل، وتحبسه في دوّامةٍ جديدةٍ من الضّياعِ والقتال مع ظلاله. لم يتوقّف وهبة عن هذه المحاولات، فحين باء معظمها بالفشل، عمل على اختراع التّعزية بنفسه، على قياس ألمه، لكن هذا الأخير يكبر بسرعة الضّوء تاركاً هذه التّعزية غير كافية لتغطّي وجه وهبة حتّى، لكيلا ينظر إلى الضّياع الآتي والمخصّص له.

إن عمليّة التّنقيب عن التّعزيات، خطّة فَشِلَتْ قبل أن تبدأ، ومراوغةٌ لا يعضّ فيها الأسدُ إلّا ذيله. لكنّ في كلّ مرّة يفشل، يخرج وهبة من غرفة إلى أخرى، ليكرّر العمليّة بالتّرتيب نفسه، عوضاً عن الرّجوع إلى ذاته وحيداً، تاركاً الجميع في الغرف مقفلةً. لكنّ هذه الدّعسة النّاقصة، التي يخطوها في كلّ مرّة، تلفّ كلماته بصدقٍ يطهّر براءته وشفافيّته، ويجعلنا نخاف عليه من ضياعه ومن القصائد الآتية.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها