الأحد 2024/02/18

آخر تحديث: 08:11 (بيروت)

إيريك إيمانويل شميت يروي سيرة "غريمة" ماريا كالاس

الأحد 2024/02/18
إيريك إيمانويل شميت يروي سيرة "غريمة" ماريا كالاس
وعندما يصل الأمر لتقبّل سقوطها الفنّي ونسيانها، تدخل السّيدة برلومي في حالة من الإنكار الشّديد.
increase حجم الخط decrease
"- ومن تكونين يا سيّدة؟

- أنا كنتُ غريمة ماريا كالاس"

   

لا أدري إن كان أحدٌ منّا قد سمع بإسم كارلوتا برلومي (Carlotta Berlumi) مغنية الأوبرا وغريمة الشّهيرة ماريا كالاس (Maria Callas) اليونانية الأصل التي اجتاحت أهمّ مسارح الأوبرا العالمية بصوتها الصّدّاح الهادر في أوبرات فيردي وفاغنر وغيرهما من المؤلّفين الشّهيرين؟ كارلوتا هذه، لا أحد منّا يعرفها، وهذا هو المطلوب، وما يريد إيصاله الروائيّ الفرنسيّ إيريك إيمانويل شميت (Eric Emmanuel Schmitt) في روايته القصيرة الصّادرة حديثاً تحت عنوان "الغَريمة" (La Rivale) التي يروي فيها سيرة السّيدة برلومي ومحطّات حياتها المهنيّة الأساسيّة من بزوغها المدهش حتّى تفتّتها كالرّماد. في الوقت عينه، يروي لنا شميت شذرات مهمّة من سيرة السّيدة كالاس بمنظور غريمتها. وبهذا، يكون قد ضرب عصفورين بحجرٍ واحد.


لكِ ما يحلو لكِ

قد أزرع خنجراً في ظهر السّيدة برلومي في حال بدأت هذه المقالة بتعريف عن ماريا كالاس، إذ إن هذه الأخيرة لاحقتها طوال حياتها، منذ أن اعتلَتَا خشبة مسرح "سكاليا" في ميلانو وتشاركتا أداء أوبرا "فيستا" للمؤلّف الموسيقي الإيطالي سبونتيني حتّى رافق صوتها اليونانيّ جثمان السّيدة برلومي خارجاً من إحدى كنائس ميلانو. دخلت ماريا كالاس في أدقّ تفاصيل حياة السّيدة برلومي. سرقت منها عشّاقها التي عملت هذه الأخيرة على تكثيرهم وعلى أن تكون السّباقة في الإخلال بعهود الحبّ، وعيش المتعة بينها وبينهم لحماية كرامتها من ألاعيب ماريا الكاذبة. سرقت منها أدوار البطولة بصوتها الذي لطالما تنبّأت السيدة برلومي بسقوطه، بإخلاله بإحدى النّوتات الموسيقيّة العالية، بتعثّره في الانتقال من طبقة إلى أخرى. لم تكتفِ ماريا كالاس بكلّ هذه الهجمات التي قادتها على السّيدة برلومي، لا بل عملت على تخريب سمعتها بين أفراد الفرق الموسيقيّة والمؤلّفين الموسيقيين، لا بل أكثر من ذلك، حاولت اغتيال "شخصيّتها المعنويّة والفنّية" من خلال محو أيّ أثر لها من السّوق الموسيقي ومن أهم كتب التّاريخ الموسيقي الأوبرالي، بمساعدة النّاقد الفنّي "لوشيو دا" (Lucio Da). لكن هل دخلت ماريا كالاس حياة السّيدة برلومي حقيقةً، أم أن هذه الأخيرة توهّمت ذلك وأقحمتها بنفسها لتعلّل فشلها وسقوطها وغيرتها الشّديدة من نجاح السّيدة كالاس، وتكون بذلك قد اصطنعت كلّ هذه الأحداث لتوجّه أصابع الاتّهام نحوها؟


لماذا أنا؟

    لم يبخل شميت في نقده اللّاذع وغير المباشر لهوس السّيدة برلومي، بنجاح ماريا كالاس. ففي كلّ مرّة حاولت برلومي تغيير الحقائق ولعب دور الضّحيّة المغدورة من فنّانة لا تضاهي ثقافتها الموسيقيّة وقدراتها الصّوتيّة، كان يأتي دور أحدهم في تفجير الفقّاعة التي أدخلت برلومي رأسها ومخيّلتها فيها في بادئ الأمر. هذا ويرتكز شميت في تشريحه النّفسيّ الاجتماعيّ للسّيدة برلومي على العلاقة الوثيقة بين الغيرة ولعب دور الضّحية، إذ نرى دأب السّيدة برلومي على نقل مشاعر الحيرة والاستغراب من تصرّفات ماريا كالاس المعادية لها، المخرّبة لنقائها وطيبتها وسمعتها الموسيقيّة، والتي تبدأ من دون سابق إنذار، من دون أن تمثّل حركة ما من جهّة السّيدة برلومي، النّقطةَ التي طفح عندها الكيل. وليس غريباً أبداً أن نشعر ونحن في خضمّ قراءة كلمات شميت، وبالأخصّ حوارات السّيدة برلومي، أنّها تتكلّم مع نفسها، حتّى لو قابلها متحاورٌ ما، لا يلبث أن يصير شبحاً وتطغى عليه هيأته المجهولة المشيرة إلى السّيدة برلومي بإصبع السّخرية والمقارنة والتّساؤل معاً. إن تفاعل برلومي مع مسألة منافسة ماريا كالاس لها قلّما يخرج من حوارها الطّويل مع ذاتها. فمن ناحية، ومع مرور الوقت والانخفاض الشّديد لتأييد رأيها في المجتمع الفنّي الإيطالي، أصبحت ترى في نفسها النّاقدة الفنّية الوحيدة المؤهّلة لتفنيد تقنيات وقدرات ماريا كالاس الفنّية وإدراج لوائح لا تنتهي من أخطائها ولحظات ضعفها وقراراتها الخاطئة. أما من النّاحية الأخرى، فتتذكّر السّيدة برلومي فجأة أنها مغنّية أوبرا بعد غوصها الطّويل في نقدها الدّقيق والشّديد لماريا كالاس، ليتضاعف بذلك اهتمامها بأعمالها ومسيرتها الفنّية فقط حين يقع المحظور ويتم اختيار ماريا كالاس للقيام بدور بطولة آخر في أوبرا شهيرة ما. إن هذا الحوار اللّانهائيّ، المشتعل والعقيم في ذات برلومي يمنعها من العيش والتّقدم في مسيرتها، فبدل أن تعمل على الوصول إلى أحلامها، راحت تعمل على تدمير جميع الوسائل التي قد تساعد الفنّانة اليونانيّة على تحقيق مرادها.


    وعندما يصل الأمر لتقبّل سقوطها الفنّي ونسيانها، تدخل السّيدة برلومي في حالة من الإنكار الشّديد. إذ لا يمكن لكارلوتا برلومي أن تُغيّب عن ساحة إيطاليا الفنّية، هي التي قدّمت أشهر أعمال الأوبرا العالمية، وتمتلك الصّوت العذب الحرّ والمنضبط في آنٍ معاً. لا يمكن أن تُكمل ماريا كالاس حيث لم يبقَ خبزٌ للسّيدة برلومي. وبدل البحث عن طريقة ما لتقديم ذاتها للفنّ من خلال العمل على مشروعٍ ضخم، أو مبادرة إنسانيّة تجتاح العالم أو مجتمع إيطاليا الثّقافي والفنّي الذي شكّلت له وجهاً من وجوه الرّقي والجمال، تنتقل برلومي للعيش في الأرجنتين، بعيدة عن الشّهرة والحدود الحقيقية للعالم الأوبرالي. تقحم نفسها في عدّة أعمال فنّية لا تشبع جوعها لعملٍ ضخم على أحد تلك المسارح الأوروبيّة الحاشدة بأهل السّياسة والبذخ. وبعد ذلك، حين ينقطع بها السّبيل إلى شبابٍ دائم، ويكبر العمر بها فوق القدرة والصّوت الجبار الصّداح، تتنحّى عن السّاحة الفنّية لتقوم بالتدريس في أحد معاهد الأرجنتين الموسيقيّة، لتكون المفاجأة، لها ولجميع المنتمين إلى المعهد ما عدا القارئ، أن نسبة نجاح تلاميذها في الوصول إلى الشّهرة والعالمية، في إتمام عملٍ كاملٍ باتقان، معدومة. لكن، في الحقيقة، كل اللّعنات والسّقطات، كل حالات الفشل والتّخبط، تهون أمام تعثّرٍ طفيف للسّيدة كالاس. وإذا لم يكن للقدر يدٌ في ذلك، فقد كان للسّيدة برلومي شخصيّاً يدَين اثنتين، أفشلت بهما أهم مناسبة لها في كلّ مسيرتها الفنّية، أمام رئيس الجمهورية الإيطالية، الذي كان قد قلّدها حديثاً آنذاك وسام الجمهوريّة، ومعه حشد من أهم الشّخصيات الأوروبيّة الفنيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. إيطاليا كلّها شاهدت وسمعت ماريا كالاس تنهار، لكن النّظر من خلال عينيّ كارلوتا برلومي كان الأصدق. كان لا بد لها أن تنهار!


يكرج الموت البطيء

    وبعد ضربة واحدة مسدّدة باتقان، وإصابة مباشرة للهدف، تتوالى الضّربات والهزائم كالمطر الموحل. فكم اشتفت كارلوتا برلومي بمنافستها الشّديدة وهي تخسر زواجها المتين من رجلها المحبّ، هي التي لطالما بحثت عن طرف خيطٍ يوصلها إلى عمليّات الخيانة التي قامت بها هذه الأخيرة لتفضحها! وكم اشتفت بها وهي المطروحة في فراشها، لا يسمع لها صوت، بعدما كسر قلبها الميلياردير اليونانيّ أرسطو أوناسيس (ِAristotle Onassis) ليفوز بقلب أرملة رئيس الجمهورية الأميركيّ جون كينيدي! وكم ارتاح قلبها، لبعض الوقت، حين علمت كارلوتا برلومي أن ماريا كالاس، لم تستطع تحمّل هذه الفاجعة، التي وصلت إليها عبر وسائل الإعلام وهي تسجن نفسها في منزلها فانطفأت بصمت وحرقة في شقّتها في باريس!


   الوحشيّة تزيد من إنسانيّة الضّحية. لم يدخل شميت في سرد أي تصرّف قامت به ماريا كالاس لمهاجمة برلومي، لإزعاجها حتّى. فهذه الأخيرة، لم تترك مجالاً لا لشميت، ولا للقرّاء، ولا لأي أحدٍ رافقها طوال مسيرتها، أن ينظر بالعين المجرّدة إلى ماريا كالاس ليتمكّن من فضح أيّ من خططها أو تصرّفاتها التّخريبيّة الخبيثة، في حال وُجدتْ. الوحشيّة تقتل الشّهود قبل الضّحية. إذ لا تترك لهم مفرّاً للانتقال إلى ضفّتها ومعاينة محاولات ضحيّتها، لأذيّتها. فالإنسان المنسحق أمام كمٍّ هائلٍ من العنف، يضع هالة الطوباويّة للضّحية ورمح الشّيطان في يد المعتدي، لا من وجهة نظر أخلاقيّة أو بعد تحقيق دؤوب وموضوعيّ، بل إثر ردّة فعل دفاعيّة عن نفسه، هو الغارق حتّى أخمص قدميه في بشاعة كراهية المعتدي لضحيّته وتشفّيه بألمها وعذابها.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها