الجمعة 2023/11/03

آخر تحديث: 13:30 (بيروت)

"الغضب والغِيرة" لأليس رينارد...اليد التّي للعناق، خطرٌ ودَينٌ

الجمعة 2023/11/03
"الغضب والغِيرة" لأليس رينارد...اليد التّي للعناق، خطرٌ ودَينٌ
تَتَتَبَّع رينارد آثار القلق والخوف والانكسار والخيبة والتضحية والغيرة.. في الإنسانية
increase حجم الخط decrease
كلّما انكسر في داخلنا أملٌ أو حلمٌ، ازداد وتعمّق بحثنا عن شخص أو قضيّة أو فكرة أو مكان، عنصر ما يحوي داخله ما يشبع جوعنا لنكون كلّاً في فرادته، إنسانًا. لا يمكن للإنسانيّة أن تبقى عموداً يرتكز عليه تجاوب الفرد مع العالم ومع الآخر ومع نفسه، فهي، في جوهرها شمعةٌ نصنعها بأيدينا، تحرِقنا بالمادّة الذّائبة منها، وتقع منّا إذا أفلتناها.

في كتابها الصّادر حديثًا والفائز بجائز ميدوز (Méduse) للعام الحاليّ تحت عنوان الغضب والغيرة (La colère et l’envie)، تروي الأديبة الشّابة أليس رينارد (Alice Renard) حكاية "إيزور" (Isor) منذ الحبل بها حتّى مغامرتها الأولى الحقيقيّة بعيدًا من عائلتها. فهذه الفتاة مختلفة فريدة، كونها من ذوي الاحتياجات الخاصّة، من الجانب النّفسي أكثر منه الجانب الجسديّ. وفي روايتها، تتابِع رينارد نموّ إيزور في وسَط عائلتها، من منظار والديها، ثمّ بعد لقائها لاحقاً بالعمّ "فانسان" جارها، لتدخل معه في صداقة غريبة عجيبة، وتُدخله في منافسة غير مباشرة مع أهلها وتضحياتهم المتوالية.

القارئ الحَكَم واللّاعب
تَتَتَبَّع رينارد آثار القلق والخوف والانكسار والخيبة والتضحية والغيرة على الإنسانية، على كيان الإنسان العاطفيّ والفكريّ والوجوديّ. ففي اختيارها شخصيّتَها الرّئيسة، أفسحتْ الكاتبة الفرنسيّة لها مجالَ لعِب دور البطولة مِنْ دون أن تنطق بكلمة واحدةٍ حتّى أواخر القصّة، إلّا أنّ ذلك لم يقف سدًّا في التّعرف عليها والتّفاعل معها قدر ما تسمح لنا نظرات وآراء وتصوّرات الأشخاص الذّين يحيطون بها. وباعتمادها أسلوب الحوار غير المباشر، إذ تُصاغ نسبة عالية جدًّا من القصّة، إمّا على سردٍ مُحَوَّرٍ داخل حوارٍ ما بين الشّخصيّات الثّانوية ومجهولٍ ما، تتوجّه فيه رينارد نحو القارئ في معظم الأحيان لتجعله شخصيّة إضافيّة في قصّتها، وإمّا على شكل الرّسائل المهندسة على هيئة اليوميّات من حيث الصّياغة واللّغة والمضمون. وفي إطار إدخال القارئ في حبكة القصّة، تحاول رينارد أن تدفع هذا الأخير إلى النّزول إلى أعماق كيانه هو أيضًا، كما تفعل الشّخصيات المتتالية وهي تبرز له قدرَ الألم والضّياع والفرح الغريب المفاجئ الذّي تعيشه بشكل يوميّ.

وهذا الغوص لا ينعكس فقط على القارئ بتبعاته النّفسيّة والفكريّة إنّما يذهب أبعد من ذلك، ليكون حجر الأساس الذّي ستبني عليه هذه الشّخصيّات إنسانيّتها. هذه الأخيرة، تحت إختبارٍ طوال القصّة، لا يمكن أن يمرّ حدثٌ بسيط وخاطف إلّا ويملكَ وقعًا ما على الميزان الذّي سيضعه القارئ نصب عينيه وهو يستمع إلى أولئك الأُناس الخائفين المتردّدين مجهولي الأطباع. بطريقة أخرى، تلتمس هذه الشّخصيّات من محاوِرِها إنسانيّـتها وما يتبعها من تفهّم وتعاطف وربّما تماثلُ يقيمه هذا الأخير معها.

في انتظار الحُكْم
إن الوضعية الثّابتة التّي تُبقي رينارد عليها شخصيّاتها الثّانوية هي وضعيّة المذنبين، المقترفين أخطاء لا يدرون إن كان لهم قرارٌ في تجنّبها أم لا. يمكن القارئ بسهولة أن يشتمّ رائحةَ قلقٍ دائمٍ في القصّة، وما يترتّب منه من أملٍ متفجّرٍ مثاليٍّ في حال نجاح خطوةٍ غير مثبّتة، أو في حال الصّدف المغايرة للصّورة الخارجيّة لإطار القصّة. فالإنسانيّة دائمًا تحت السّؤال، تحت المجهر، وما يدفنها ويعرقل زُهوّها من قلق وخوف. من هنا تنطلق رينارد لتصل إلى محطتّها المخلِّصة، حيث تظهر المحبّة الخالصة، المندفعة لتُخرج الفرد من ضيق تساؤله الدّائم عن إنسانيّته إلى سعيه لتأكيد إنسانيّة غيره، ورميه نحو الحياة، نور النّاس. من البراءة والبساطة تخلع رينارد مسحةَ حياةٍ على الأرواح، إذ إنّ "إيزور" هي بطلةُ القصّة في عيون الشّخصيّات المرافقة لها قبل القرّاء، وهو ما يضع الرّواية ضمن إطار قائم بحدّ ذاته، لا زمنيًّا ومكانيًّا فقط، إنّما في البعد الوجودي أيضًا. وبالرغم الدّور المقرون بها، لا تشكّل "إيزور" صمّام إنسانيّة والديها، العالقَيْن تحت أنقاض التّضحيّة القسريّة والاغتراب الاضطراريّ في وجه طفلةٍ لا يجدون فيها أيّ شبهٍ يعزّيهما ويردّ أتعابهما إلى منابع الحنان والرّحمةِ الوالديّة.

الضّيف الثّقيل
وفي خضمّ التّخاطب بين الأهل والقارئ، وعنائهما في إثبات إنسانيّتهما له، تظهرُ الوداعةُ والمحبّة البريئة المذنبة. فرينارد لم تسمح للتعاطف مع "ايزور" أن يمرّ مرور الكرام ومن دون رقيب. كلّ من يهتمّ، لديه أسبابه، مصالحه، طموحاته، أوهامه. اليد التّي للعناق، خطرٌ ودَينٌ. لكنّ الوقتَ كفيلٌ بمسح الكذب عن الشّفاه والعيون. ومن هذه النّاحية، تفتحُ رينارد حبكة قصّتها على خطٍّ زمنيٍّ طبيعيّ وبسيط، مستقيم، لكنّه في الآن ذاته، يُبرزُ شفاعة الزّمن ورحمته المتناقلة من الأيّام إلى النّاس. إذ إنّ العجوز "فانسان" قلبَ موازين الأهل وإيزور والقصّة برمّتها، ليكونَ شجرة الرّاحة والطّمأنينة للقارئ الذّي صار يأكلُ من صحن الهمّ نفسه مع الأهل. "فانسان" هذا غريبٌ، فطوال القصّة، لم يتوجّه بكلمة واحدة إلى القارئ، لا في معرض المدح ولا الشّكوى ولا التّساؤل حتّى. عيناه فقط على "إيزور"، على حركاتها، أحلامها، محاولتها المتفرّقة والعبثيّة. عندها يحملُ القارئ ميزانًا جديدًا، دفّته مائلةٌ بلا عناء، يروز فارق صلابة الإنسانيّة بين العجوز والوالدين. حينَ يتكلّم ذاك الأوّل مع "إيزور"، يعلم جيّدًا أن محاورته، غلبها الصّمت وليس الجهل. يمنح نفسه فسحةً بين الماضي والمستقبل، أبعد من الزّمن الحاضر، ليعرض نفسه لها، ماضيه، مآسيه، تصوّراته، ليقدّم لها إنسانيّته. هنا يبدأ التّمايز ما بين موقف "فانسان" وأهل "إيزور"، ففي حين لجأ الوالدان إلى القارئ ليشكوَا له تضحياتهما وألمهما في محاولةٍ لتبرير ومسح قساوة قلوبهما في نظره، نزل "فانسان" إلى "إيزور" وتبادلا إنسانيّـتيهما. فهو من جهّة قدّم لها ما يملك من ذكريات وهموم، وأحلام، مانحًا إيّاها رقعة المستمِع، مؤكِّداً لها تيّقُنه من إنسانيّتها. ومن جهّة أخرى، سمح لها أن تتعاطف معه، أن تحبّه وتتعلّق به، أن يكون مصبّ عواطفها، ويُشعرها، هي المترفّعةُ عن الكلام، أن محبّتها مقدّرةٌ. وما الإنسانُ إن لَمْ يسمح لأحبّائه أنْ يحبّوه؟

وحدةُ المسار والمصير
لم تتركْ "رينارد" "إيزور" معلّقةً بين "فانسان" وأهلها وحسب، بل سمحت لها أن تطلق العنان لجناحَيها المكتومَين، وتحلّقَ في البعيد، لتكتشف إنسانيّتها بنفسها. فالنّظرة التّي يمدّنا بها الآخر، كافيةٌ لننتبه إلى الباب المُقفَل الذّي أطلنا إغلاقه، أمّا المفتاح فليس مع أحدٍ سوانا. السّفر والابتعاد والمغامرة في حقل "رينارد" يشكّل رمزيّة مهمّة في الحياة الإجتماعيّة الحديثة. إذ إن "إيزور" الخارجة عن مألوف التّربية الحديثة، برأي والديها، سلكتْ الدّرب عينه الذّي يمشي عليه آلاف الشّباب كلّ سنّة. أعادتْ إلى حياتها سُنَّتَها الضّائعة. أتمّتْ ما قَدَّر لها أن تعيش في كونٍ موازٍ. هذه المغامرةُ، وانحصار التّعبير بإيزور فقط، يدلّ في النّهاية على أحاديّة جوهر القضيّة، إذ لا يمكن لا للأهل ولا لفانسان، ولا لأيّ كان أن يسرق من "إيزور" مهمّة تثبيت إنسانيّتها، ولا أن يُقْدِم على ذلك من دونها، مهما حاول.

في النّهاية، تبردُ اللّحظات في اللّيل، وتعلو أصواتُ عقارب السّاعة. والوجوه التّي رأيناها وما بلسمناها، تقف أمامنا فنخجلُ من أنفسنا، ونخبّئ أحلامنا عنها لئلا تسرقها فنخجل من أنفسنا أكثر. أما تلك التّي باركناها، ومن دون انتباه حتّى، فهي التّي سترفع رأسنا في اليوم التّالي، لنعود ونبلسم تلك الوجوه الأولى.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها