الجمعة 2024/02/16

آخر تحديث: 13:34 (بيروت)

سينما تشاد...واليهودي الذي صار إمام مسجد

الجمعة 2024/02/16
سينما تشاد...واليهودي الذي صار إمام مسجد
تشاد هي البلاد الوحيدة التي لا تملك صالة سينما.
increase حجم الخط decrease
في نهايات الحرب العالمية الثانية، وصل يهودي من أصول إيرانية إلى تشاد. كان يدعى جورج حمداني، ولم يكن أحد يعرف لماذا قطع كل هذه المسافة ليسكن هنا في قلب القارة الأفريقية. حين وصل إلى فور لامي، قرّر أن يستثمر في هذه البلاد التي كان ما زال الفرنسييون يستعمرونها، فافتتح صالة سينما كمكان للترفيه، وكانت عينه على الفرنسيين الذين يشغلون الحارة الأوروبية ومعظم مركز المدينة وأيضاً على "المقاتلين السنغاليين" وهي تسمية أطلقت على جميع الأفارقة الذين قاتلوا من أجل الدفاع عن فرنسا سواء في حرب الهند الصينية أو الحرب العالمية...

هكذا، ومن دون مقدمات، أعلن حمداني افتتاح أول صالة سينما في تشاد وسماها "النورماندي La Normandie" تعظيماً لإنزال النورماندي الشهير والذي كان بداية لانتصار الحلفاء في أكبر حرب عرفتها البشرية، ودعاية لأسياده البيض الذين كان يحكمون هذه الأرض السوداء.

سينما النورماندي هي أول صالة تفتح أبوابها في تشاد لمشاهدة الأفلام، وأيضاً هي آخر صالة توقفت عن النضال في سبيل البقاء، لتصبح تشاد من البلدان القليلة جداً التي لا تعثر فيها على صالة سينما واحدة. كانت النورماندي في وسط المدينة، تطلّ على شارع شارل ديغول؛ أهم شارع في العاصمة وتحتوي على صالة حديثة بكل المعايير. 700 مقعد، وثلاثة أفلام كل يوم. الصالة التي رأت النور في نهايات الحرب الكبرى ستعرف الظلام وتغلق أبوابها مرات عديدة بسبب حروب تشاد الكثيرة. أغلقت أبوابها للمرة الأولى في الحرب الأهلية العام 1979، فقبالتها تلقى طالب ثانوية رصاصة كادت تقتله، من دون أن يدري أنه سيصبح أهم مخرج تعرفه تشاد، وبعد سنوات ستعرض أفلامه في هذه الصالة التي كان يتردد عليها لمشاهدة الأفلام الهندية. عادت الصالة للعمل بعد الحرب، لكن حمداني باعها إلى الجزائر ليعمل فيها سيرج كويلو وعائشة مصطفى ويصبحان مخرجين لاحقاً، ثم تبيعها الجزائر إلى تاجر تشادي. في العام 2008، أغلقت الصالة أبوابها بسبب الحرب وفرار الأجانب الذين شكلوا غالبية الزبائن، لكن المخرج محمد صالح هارون اجتهد كثيراً وأعادها للعمل.

رأيت الصالة للمرة الأولى في العام 2010 وأنا أسعى لأصبح طالباً في ثانوية الملك فيصل. كنت على متن دراجة نارية حين رأيت الملصقات ووجوه الممثلين، ودفعني شغفي بالسينما إلى أول حادث بدراجة نارية. لاحقاً سأتردّد عليها رغم السعر المرتفع للتذكرة. كنت أقطع مسافة طويلة من حارة دقيل إلى وسط المدينة لأشاهد فيلم السادسة مساء، وأدردش مع الفتاة التي تعمل في مكتب التذاكر. كانت لبنانية على الأغلب لأنها تتحدث معي بالفرنسية وتفهم كلماتي المليئة بعبارات عربية. في العام 2012 أغلقت الصالة نهائياً بسبب هجمات حركة "بوكوحرام" ولم تفتح أبوابها حتى اليوم.



جورج حمداني التاجر والإمام
في أيلول 2023 كتبت جريدة "تي آر تي" التركية عن اليهودي الوحيد في تشاد، وأعلنت أنه وبحسب وثيقة كتبها الدبلوماسي الإسرائيلي آرييه لافيه، المسؤول عن سفارة تل أبيب في أنجمينا، ومرسلة بتاريخ 30 سبتمبر 1962 إلى قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الإسرائيلية، فإن جورج حمداني الذي عاش هنا في تشاد، كلبناني مسلم، هو في حقيقته يهودي إيراني وبالتحديد من مدينة همدان. ولمّا وصل إلى تشاد ادعى أنه مسلم الديانة وصار إماماً ومؤذناً وتزوّج بمسلمة وأنجب منها سبعة أبناء، ثم توقف عن التردّد على المسجد فاكتشف الناس أنه ليس مسلماً. لم يحدث شيء... كان ثرياً وذا نفوذ، لذا عاش حياته الباقية وكأنه لم يرتكب جريمة.

من النورماندي إلى شهرزاد
بعد نجاح استثمار حمداني في صالة السينما، توالت الصالات. عرفت أنجمينا صالات مثل"سينما ريو Le Ciné Rio" وسينما شهرزاد، وCiné Étoile وكلها تعود إلى تجار لبنانيين. في الوقت نفسه، عرفت المدن الجنوبية أول صالة حين قرر تاجر سوداني يدعى "أبو الحسن" أن يفتح صالة في مدينة "مندو" الجنوبية وسماها سينما "لوغون" تيمنا بنهر لوغون.. وفي تلك السنوات، رفع الستار لبناني آخر عن صالة ستنافس النورماندي رغم وجودها في مدينة سار، وتلك كانت Ciné Rex.

هذه الصالات كلها ضعفت وماتت وهي في طريقها إلى الاندثار. فأصبحت "شهرزاد" مخزناً للحبوب، بينما أضحت "ريو" داخل السوق المركزي وتحولت إلى منصة لعرض التجار بضائعهم عليها. في العام 2010 حاول وزير الثقافة آنذاك، جبير يونس، أن يعيد افتتاح الصالتين لكن جهوده لم تكلل بالنجاح. وفي محاولة أخيرة حاول المخرج محمد صالح هارون إنقاذ سينما Chachati التي كان افتتحها التاجر اللبناني حبيب شاشاتي وعرف فيها المخرج بدايات حبه للكاميرا وعرض الأفلام. اليوم تباع عجلات السيارات داخل هذه الصالة التي تحولت إلى دكان.

وحدها صالة النورماندي ما زالت تحمل اسمها بعدما استطاعت الحكومة منع مالكها من تحويلها إلى مخزن لأنها أصبحت من ذاكرة المدينة، إلا أنها لم تعد صالة ولا أمل في أن تعود كما كانت. بقيت وحيدة تحمل اسمها أكثر من سبعين سنة. ربما حمداني هو اليهودي الوحيد في تشاد، والأكيد أن تشاد هي البلاد الوحيدة التي لا تملك صالة سينما.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها