الإثنين 2023/09/25

آخر تحديث: 14:01 (بيروت)

كائنات دوف.. السواد ما وراء الظلام

الإثنين 2023/09/25
كائنات دوف.. السواد ما وراء الظلام
increase حجم الخط decrease
أسلاك شائكة، رصاص وذخائر فارغة، علب بلاستيكية، خَرَزٌ ومسامير صدئة، هذه هي أدوات الفنان التشادي أبولينير دقمباي الملقب بـ"دوف" أو المجنون، والتي تصنع لوحاته المدهشة. في معمله تجد كلّ شيء، كل ما يمكن أن يلتقطه مجنون من الأرض، ملابس مهترئة، خلاخيل فضية وقلادات ذهبية وإطارات محترقة.

الزائر لمعرض أبولونير دقمنباي، يرى ما يراه للمرة الأولى، وحتماً سيصاب بالدهشة. يرى اللوحات المختلفة وما فيها من كائنات عجيبة، واللون الاسود الطاغي، لكن المتأمل يرى أيضاً حكايات وقصص. قصته وسيرة بلاده والعديد من الأشياء والأحداث خلال السنوات الماضية، كالحروب الأهلية، والتغيرات المناخية، هجرة الشباب، والأطفال المحاربين. 

يدعونا دوف إلى تأمل كائناته وهو يعيد للأشياء بهجتها. كيف للدمار أن يكون حياً، كيف حوّل النفايات إلى جمال، كيف يحيي الموتى؟ هي اسئلة دارت في بالي قبل أن التقي بأبولينير.

بداية الجنون والتيه بحثاً عن القمامة
ولد أبولينير دقمباي في 1983 في ولاية لوغون، جنوبي تشاد، في أسرة فنية. فوالدته كانت مدرسة وشقيقه الأكبر يرسم، وباكراً أظهر الطفل العاشر في الترتيب في أسرة من 12 فرداً، ولعه بالميكانيكا وبدأ يعبث بمواد والدته والمخلفات التي تجلبها من المدرسة. 

في الناحية الجنوبية من العاصمة أنجمينا، وفي حارة باريس كونغو، ترعرع وصار يرتاد قماماتها ونفاياتها، بحثاً عن أدواته حتى أطلق عليه الجيران لقب "دوف" التي تعني "المجنون" بلغة الولوف التي تحدث بها السنغاليون من قاطني تلك الحارة. ترك الدراسة باكراً، ولم يعد إليها أبداً، بل كرّس كل وقته وجهده لفنه.

يقول "المدن": "في تلك السنوات لم يكن الناس يعرفون شيئاً عن هذا النوع الذي أمارسه كفن، عملت كمصمم ديكور كي أجد القوت والقوة لأستمر في عملي. الجميع اعتبرني مجنوناً"... ينطلق دوف من تأثيرات غربية، ومن الفن البصري والتجريدي متأثراً بفلسفة جان ميشيل باسكيات ولوحات رسول السواد بيير سولاج. يستخدم الليلكي أيضاً، إلا أنّ هناك شيئاً آخر في لوحاته، مرجعية وثنية، خيال إفريقي أصيل. لم تفارقه ومضات "اليوندو" (مرحلة تدريبية وتجاوز للطفولة باتجاه الرجولة عند قبائل السارا). يقول: "اليوندو ما زالت تنير لي الطريق، إنها تجربة ثرية غيرت حياتي، لا أطلب من الناس المرور عبرها، لكنها أفادتني وأنارت لي الطريق".



ما تفعله لوحات دوف هي أنها تعطي بُعداً آخر لما نعتقده في الأشياء وما نراه عادة، إنها تجعلنا ننظر إلى الأشياء بطريقة أخرى، وأثرها الجمالي لا يزول لأنه أتى بالجمال من عمق ما نعتقده قبحاً، إضافة إلى أنك لن تخرج بالأفكار والاعتقادات ذاتها التي دخلت بها معرضه. إنه مختلف، شيء جديد، دعوة إلى إعادة النظر في كل شيء. بدءاً من الأشياء مروراً بالأشخاص والأفكار. 

في المقابلات القليلة التي أجراها المجنون، بدا خجولاً مرتبكاً، كأي فنان يقتات على الصمت ويفضله على الكلام... بدا متردداً، ينتقي مفرداته بالعناية نفسها التي يلتقط بها أدواته من بين ملايين النفايات على الأرض. يبحث عنها وحين يجدها بعد كدّ وتفكير يكررها فيستعجل المذيعون كعادتهم ويقاطعونه. "أنا جامع قمامة، وليست لدي حدود، التقط كل شيء، هذه هي مهنتي. لم أدفع فلساً لأتعلمها، لذا لا أنتظر منها مالاً أو جاهاً، أستغرب من الفنانين الذين يبكون طالبين هبات وزارة ما أو جهات ثقافية. أنا كفنان لم أوقع على عقد شراكة مع وزارة الثقافة، فلماذا أطالبها بالدعم! من يريد المال فيلذهب إلى القرية لزرع البطاطا"...

الأسلوب المضاد 
يعتبر دوف نفسه فناناً ملتزماً وسفيراً للسلام والتعايش السلمي ومهتم بالبيئة والإنسان. 
الأسلاك الشائكة والخرز هي أدواته المفضلة. بالأسلاك ينسج دعائم لوحته ويثبتها، ويستخدم الخرز كألوان على اللوحة، ورغم أنه يتناول قضايا الحرب والهجرة والبيئة، إلا أنه يترك دائماً مساحة للحب، تجد في لوحاته مساحة لقلادات ذهبية وخلاخيل فضية وأشياء تتزين بها المرأة الإفريقية ليعبّر بها عن الحب ومكانة المرأة.

يعمل دوف بطريقة عكسية، أو بطريقة مضادة. حين يودّ الحديث عن السلام، يستخدم مخلّفات الحرب ليعبّر عن ذلك، يخرجها من عملها حين كانتْ مجرد خام ويحوّلها إلى شيء آخر لتصبح أجمل، إنه يعيد للأشياء بهجتها. يقول: "الفنّ مهم جداً. فهو الشيء الذي يجمعنا مهما كانت اختلافاتنا، اليوم، وعبر الفن، يمكن لجميع التشاديين المناداة بالسلام والتعايش السلمي". ويضيف: "دائماً أحاول إرسال رسالة سلام. دائماً... استخدم النفايات لأبعث برسالة فحواها فلنحافظ على البيئة، وأستخدم عبوات الرصاص لأعبّر عن السلام. أتجوّل في الأزقة الضيقة وفي أماكن النفايات، وألتقط أدواتي من القمامة. ما يعتبره البعض قمامة يلقي بها، يجده الآخر أداة عمله، على هذا يقوم فني. على الأشياء الملقاة، على ما تم التخلي عنه".

قال لي هذا حين سألته عن المنصة التي أعدّها من الخردة من أجل جولة غنائية نظمها المغني التشادي Afrotronix في المركز الثقافي الفرنسي. في ذلك العمل الفني المشترك، قام دوف بإعداد المنصة كلها من أشياء التقطها من الأرض. سيارات قديمة، عبوات غاز تالفة، كراسٍ بلاستيكية وأشياء أخرى. "حين أوقف سيارة BMW أمام طن من النفايات وأدخل المكان مشمراً عن ذراعيّ بحثاً عن أدواتي، ينظر الناس إليّ بريبة، الغالبية تعتبرني مجنوناً"...

باريس ونيويورك 
التقيت بأبولونير أخيراً، في 11 سبتمب.ر دخلت حارة سبنقالي بتوتر شبيه بتوتر لقاء الجميلات أول مرة، كنت على موعد مع الجمال على أية حال، وصلت وانتظرت... على وقع أغنية ليوسف ندور الذي يعدّ من المفضلين لدى الفنان، جلسنا نتحدث. يقول: "أعمل لساعات، ودائماً ما ترافقني الموسيقى، دائماً، وأغاني يوسف ندور هي المفضلة إلى جانب ريتشارد بونا". تحدثنا طويلاً عن رؤيته للفن وعن أهمية التضحية وعن إعجابه بجان ميشيل باسكيات وحبه لكتابات أنتا ديوب وعن لوحته Initiation التي يقول إنه رسمها ليعبّر عن العقبات التي تواجهنا كشباب: "إذا كانت ساقك اليسرى تعيقك عن مواصلة الطريق، فابترها.. عليك معرفة إلى أين أنت ذاهب وتواصل الطريق، الناس حين يرون النجاح الذي حققته لا يطرحون الأسئلة المهمة، ككيف كان حال دوف قبل عشر سنوات، في أول عرض لي قبل خمس سنوات بعت لوحة بمئة وخمسين دولاراً فقط، سددها لي الرجل على دفعتين، وبالأمس بعت لوحة صغيرة جداً بثلاث آلاف دولار، وهكذا". 

يعمل دوف يوميا قرابة 16 ساعة. بعدما شارك في غاليري Art-Z في باريس في ديسمبر الماضي، يستعد الآن ليشارك في نوفمبر المقبل في معرض جديد في باريس، مع مجموعة لوحات تحمل عنوان "السواد الذي ما وراء الظلام"، وهناك جولة أخرى تنتظره في نيويورك.

المجنون الذي بدأ يلتقط العلب في قمامات أنجمينا، يعرض الآن فنّه في باريس ونيويورك... ويقول: "قبل سنوات كان حلمي هو العرض في باريس، حققت ذلك، ثم حلمت بنيويورك، والآن أريد أن أكون حاضراً بشكل دائم في المعارض لأمثل بلادي.. هذه البلاد مثل كل بلدان العالم، لدينا ثقافة وفن ونحن أناس كرماء، يجب أن نغير الانطباع الذي في أذهان الناس بشأن بلادي، وهذا هو دورنا كفنانين، تشاد ليست بلاد حرب وأشياء سلبية فقط، لدينا شباب مبدعون جداً وثقافة ثرية؛ علينا إظهار ذلك للعالم".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها