الخميس 2023/12/21

آخر تحديث: 13:50 (بيروت)

"غراميات إستثنائية فادحة" لعاطف الحاج سعيد...أحلام الضفة الأخرى

الخميس 2023/12/21
"غراميات إستثنائية فادحة" لعاطف الحاج سعيد...أحلام الضفة الأخرى
increase حجم الخط decrease
كيف أعبُر هذا البحر؟ ربما هذا السؤال و"الغراميات الاستثنائية الفادحة" هي ما تجمع شخصيات رواية الكاتب السوداني عاطف الحاج سعيد. مجموعة من المهاجرين الحالمين بالوصول إلى بريطانيا، يعيشون في غابة كاليه الفرنسية وفي أطراف المدينة منتظرين فرصة عبور بحر المانش. 
 
قصص هؤلاء هي الثيمة، هجرة فقراء الجنوب نحو أوروبا، لكن ما يميز هذه الرواية أنّ الكاتب لا يتوقف عند وصف صعوبات الهجرة وأهوالها ومآسيها في الطريق، بل يتناول الصراع والعذاب النفسي والشتات الذاتي الذي يعانيه المهاجر بعد وصوله إلى أوروبا.

تبدأ الرواية هكذا: "بالطبع لم يأت المهاجرون إلى الرابية الواقعة قرب غابة كاليه هكذا من العدم بين ليلة وضُحاها؛ فقد بدأت قصة نزوحهم إليها في بلدة قراند سنت، بعيدًا من مدينة كاليه، عندما وقف المهرّب أبْنعوف أمام سيد راستا، إثر غياب رنْدا المفاجئ، وكان المهرب يظن أنه سيحصل مالًا سهلًا عندما همس بثقة: "الكل يعلم، سوى أنت بالطبع؛ بأنها خططت لتغادر برفقة الإريتري القصير، الجميع كان يعلم بأن شاحنة صغيرة ستقلهما إلى كاليه وأن سائق شاحنة بولندي سيلتقطهما من الطريق (A16) وسيعبر بهما البحر على ظهر سفينة شحن، وأن الإريتري دفع الكثير من المال الذي أرسله أقرباؤه إليه من أستراليا ولندن وإسرائيل. سأجعلك تلحق بها، ستعبر المانش مساء الغد من ميناء كاليه، يجب أن تثق بي وتعطيني المال!".

يروي عاطف الحاج قصص مجموعة من المهاجرين الذين انتهى بهم الحال في غابة كاليه حيث يعيشون داخل الغابة تحت رابية لا يعبر سماءها القمر ويتذكرون الماضي المؤلم الذي عاشوه في دول الجنوب بينما يحاولون العبور إلى الضفة الأخرى ويتساقطون في غراميات استثنائية. 

الحب والفداحة
يرى عالم النفس، ثيودور رايك، أننا نقع في الحب لعدم الرضا ولأننا نشك في ذواتنا؛ نقع في الحب حين نشعر بالنقص ونجد أنفسنا أقل من الأنا المثالية التي نطمع للوصول إليها. وتصدق مقولة رايك على ما يحدث لأشخاص هذه المتتالية، فأمام الآمال المجهضة والمستقبل المجهول والماضي السحيق يقع هؤلاء جميعاً في الحب. 

الجميع يقع في الحب، بدءاً من راستا، الشخصية الأهم والتي تبدأ بها المتتالية؛ موسيقار سوداني بشعر مجدول ومحب للموسيقى، يعبر البحر بصعوبة ليصل إلى فرنسا ليعثر على غيتار ويعزف للمهاجرة رندا في أرصفة وغابات كاليه على أمل أن يجد معها فرصة للعبور. تعبر رندا مع مهاجر إريتري يملك المال، وتترك راستا يعزف أغاني الحنين والحب حتى يلتقي بمسك الجنّة، وهي تجر عربتها وتمشي مشيتها السرنمية، حالمة بأن إينزو الطفل، هو تجسيد لحبيبها عطرون، الذي كان يعيش معها في قرية على سفح جبل أسفل وسط السودان. تدري أن حبيبها لن يعود بعد عبوره ليل الغابة، لكنها تعتبر إنزو تجسيداً للحبيب والابن الذي لم يأت.

وهناك كودي، المراهق الذي غادر قريته في جبال النوبة، بينما جسده يتلقّى أول دفقات التيستوستيرون، وهو يظهر عضوه للممرضات على أمل الخلاص من الشهوة التي تحرق أسفل بطنه.

وابنعوف، المهرّب البارع في عمله، كان يساعد المهاجرين على الوصول إلى بريطانيا قبل أن يقع في غرام فادح واستثنائي حين يتعرّف على غجرية تلهيه عن مهنته وعن حياته.

مصائر وأحزان عديدة لمهاجرين تركوا أوطانهم أملاً في حياة افضل، لكن الطريق طويل ومتعب. وفي الطريق يصبح لهم وطن آخر في "غابة كاليه"، التي تقرّر الحكومة إفراغها من المهاجرين عقب حوادث قتل تقع داخلها. هنا يعود شعور الفقد والحنين إلى ما يتم طمره تحت العجلات الحديدية لجرافة البلدية ويصعدون إلى باصات البلدية بينما يشاهدون خراب وطنهم الثاني. 

حكايات تنتمي لمناخ نفسي واحد وتنطلق من مكان واحد محدّد، وزمان يمتد ما بين 2005 و2016 (وقت تفكيك معسكر غابة كاليه للمهاجرين) وينتقل السرد في بعض المواضع إلى أزمان وأماكن أخرى عبر تقنية الاسترداد الفني (الفلاش باك). وأيضاً، الحكايات كلها تنتمي لعالم سردي واحد، لكن ميزة هذا العمل أنه يتيح قراءة كل حكاية بشكل منفرد من دون أي ترتيب، فكل حكاية في النص تتمتع بالاستقلالية، كما وصفها المؤلف.

ما يميز كتابات عاطف هي لغته الاستثنائية والمتمردة. فالسرّ ليس في ما يكتب، بل في كيف يكتب، منظومة الراوي العليم مع الأفعال المضارعة والوصف الدقيق، تجعل القارئ يعيش القصص وكأنه يراها في شاشة أمامه. إضافة إلى تداخل الشخصيات وارتباط قصصها بعضها ببعض. لا يحكي لنا عاطف معاناة المهاجرين في الطريق الطويل، ولا ما يعانيه المهاجر في البحار والصحاري، بل يحدثنا عما يشعر به ويحسّه المهاجر ويعذبه من الداخل، وفي ذلك تكمن جمالية وأهمية كتاباته.

عاطف الحاج سعيد
روائي سوداني، نشر أعمالاً قدّمت مقاربات سردية لموضوعات الهجرة، اللجوء، اضطرابات الهويّة الجنسية والوطنية والدينية، وصدام الثقافات. حصلت روايته "عاصف يا بحر" على جائزة الطيّب صالح للإبداع الروائي العام 2016، كما في فاز في 2021 بجائزة توفيق بكّار للرواية العربية. صدرت روايته "غراميات استثنائية فادحة" عن منشورات عندليب - الخرطوم 2023.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها