الثلاثاء 2024/02/13

آخر تحديث: 15:22 (بيروت)

الحبّ اليساري والكيتش الذي لا يرحم

الثلاثاء 2024/02/13
الحبّ اليساري والكيتش الذي لا يرحم
أروى صالح
increase حجم الخط decrease
لا تتمّ المقاربة والكتابة عن الناشطة اليسارية المصرية أروى صالح من دون المرور على كتابات الشاعر، مهاب نصر، فهو نشر أكثر من مقال عنها، وتطرّق إلى جوانب خاصة في حياتها، وما كتبه ونشره في بعض جوانبه، يكمل ما كتبته، أو هو متشعّب منه، وإن كان فيه الكثير من التنظير حول اليسار والفلسفة والثورة والسلطة والجندر وجيل السبعينيات والهزيمة والخيبة والكيتش. ومن بين الأمور التي يكشفها، جانب من معضلة الحبّ في تبدلاته وتعثراته وسوائله و"الحبّ اليساري" تحديداً من خلال تجربته الشخصية...

ففي مقاله "الحالمون/ الجندرية والسياسة"، يقول نصر: "أول مرة أتنبه إلى المعضلة التي يمثلها الرومانسي، (الرومانسي المصري وربما العربي) كانت عبر حوارات لا تنتهي مع أروى صالح عن الحبّ وعالم الصور القاسي، والمدهش أنها في آخر رسالة منها إليّ كتبت أن كلانا كان رومانسياً بطريقته. كانت هذه الخاتمة مفارقة بحدّ ذاتها ولا تعني بالضرورة أننا تعلّمنا شيئاً، فالفتنة المدهشة للعاطفة المطالبِة والمورطة أخلاقياً، والحبّ المبنّي على خيالات عطاء غير محدود لكنه مؤجل إلى ما لا نهاية، كانت مغروسة في الرحم الذي لم يفصلنا عن مشيمته؛ عن ثقافة "وطنية" كنا نتصوّر أننا تحررنا منها، بينما هي هنا، تصنع من الحبّ مسرحاً وعذاباً وعجزاً وإرادة مغلولة وصدقاً شرساً وشهوانياً لأنه بلا واقع يستند إليه".

يضيف: "كانت أروى أول من نبهني بصورة مباشرة وغير مباشرة إلى الطابع الإجرامي للرومانسي (رجلاً أو امرأة)، أو ما كانت تسميه "الحالم". في حبّ "الحالمين" هكذا كنا نتصور أن عاطفة فردية يمكنها أن تفصح عن كل ما أجّلناه: الحرية بالتحديد والتطابق مع الذات، أن تنجو، وتنجينا معها، وأن تكون هذه الحرية هي الاثنين وقد صارا واحداً". والشاعر ينتقد سلطة الحب المعلّقة، إذ يعتبرها مثل السلطة الوطنية "كانت مرتهنة بنظام عالمي وقيمي ألقيت فيه من دون أن تكون جزءاً فعلياً منه. أي أنها فقدت معنى التأسيس. هكذا تشكّلت رغبات السياسة والحب بلا موضوع فعلي، بل وفق خيالات مبتورة، موطنها الكتب والروايات".

ويستدرك نصر إلى كتاب يعتبر أساسياً لتفسير الحالة الذاتية العربية، وهو "كتاب الأحزان" لناجي نجيب، الذي يحدثنا عن الكتّاب الرومانسيين العرب "فرديو النزعة ـ عاجزون عن تحقيق هذه الفردية"، ومن ثم يلاحظ نجيب اعتصام هؤلاء بنوع من الأيديولوجيا الشعرية، ويكتب عن دعوة الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي إلى عدم اتباع الغرب وإلى "الاستقلال النفسي" للشرق كرديف للاستقلال السياسي، قائلاً إن مصدر نجاح دعوة المنفلوطي والإقبال على كتاباته لم يعد إلى كونها مؤسسة على دراسة عقلانية ومعرفة وخبرة تاريخية، بل هي ترفض الاجتهاد وتزدري الغريب. فالمنفلوطي يقترح أيديولوجيا الإنسان كنفس شعرية، ويقوم على تغذية الأطر الذهنية والنفسية عوضاً عن التاريخ (كتاب الأحزان  ص46). عالم السياسة نفسه بحسب، نجيب، تشكل وفق "إزدراء السياسة" والخوض في الجدل الأخلاقي والحقوقي "واستخدام ألفاظ إيحائية عن الشرف والكرامة" (كتاب الأحزان ص50). ويسجّل نجيب، أن بكائيات العرب في القرن العشرين، من المنفلوطي إلى محمد عبدالحليم عبد الله، إلى صلاح عبدالصبور، كانت تشير إلى إخفاقات الفئات والشرائح المتوسطة في المجتمع العربي...

لكن مهاب نصر يقول أنه يجب التنبه إلى أن ما بين السياسة والحبّ (الوطنيين) لم يكن مجرد تشابه. بل المقصود هو كيف نشأت السياسة الحديثة باعتبارها "حباً"، حب محافظ أو استحواذي، مثالي أو ماجن. فالرغبة المؤسسة للحب هي عينها التي تؤسس للسياسة في مجتمع "المبتسرين". وهنا يسأل: أما من هم المبتسرون؟ فهم في الحقيقة المجتمع كله. 

وكتب مهاب نصر، مقالاً بعنوان "بيت أروى، عن الصدق والثورة"، ومهده بسرد عن النظام الناصرى وما قبله وتطرق إلى جيل السبعينات وخيباتهم، لكن الصورة الأكثر ضراوة في كلامه، كانت سيرة عقدة قرانه بأروي صالح، وعنونها "فرح على هامش الكيتش"، ويوغل في الوصف الذي، ربما يكون فصلاً آخر من كتاب "المبتسرون" لأروى صالح نفسها، فيقول: "كان احتفالاً بسيطا في منزلها دعي إليه عدد من رفاق الأمس والأصدقاء. شعرتُ بتوترٍ شديد بين هذه الوجوه التي تتجاهلني تقريباً. وربما لم يكن الأمر كذلك، فاللغة المشتركة تصنع السحن المشتركة أيضاً التي تتعارف تلقائياً. لم يكن هناك ما يشير إلى أننا في "فرح" وإنما في جلسة هامشية بعد انتهاء اجتماع الحزب. بدا وكأن هناك خجلاً من أن يكون "الفرح" عادياً: زغاريد، أغاني، ضحكات.. إلخ". يضيف: "انسحبت إلى غرفة المعيشة مستنجداً بوجود ببعض الأصدقاء وسمعت إحداهن من الصالة تقول: ده العريس بيغني!.. جاءت الجماعة والتفت في دائرة على الأرض في حجرة الجلوس. بعدما انتهت أغنيتي، قدمت أسرة من "رفيقين" طفلتهما الصغيرة لتغني أغنية ثورية.... شعرت وقتها أنني أريد أن أتقيأ. وتذكرت فوراً "الأخوة" الذين كانوا يغنون في الأفراح "الاسلامية": لبيك إسلام البطولة كلنا نحمي الحمى/ لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما. فتردد الجماعة: سلما.. سلما. امتدت يد الرفاق لتمسخ حتى الطفولة من أجل تكرار شعارها الكاذب والميت. فالكيتش لا يرحم"...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها