الثلاثاء 2024/02/13

آخر تحديث: 10:52 (بيروت)

البرلمان اللبناني: مجلس الهزل والشرور والملل

الثلاثاء 2024/02/13
البرلمان اللبناني: مجلس الهزل والشرور والملل
مجلس النواب (حسن ابراهيم)
increase حجم الخط decrease
يقول الألماني غونتر غراس في روايته "الطبل الصفيح"، إن الملل هو الشر القائم بذاته. ويشير في هذه الرواية الضخمة إلى جملة من الوقائع التي يتداخل فيها الملل مع الهزل والشر.

تابعتُ لأيام وبالتفاصيل جلسات مناقشة موازنة العام 2024، في مجلس النواب اللبناني، وأكثر ما استبدّ بخاطري أثناء تلك المتابعة الدقيقة عبارة غراس أعلاه. من السذاجة بمكان أن يتوقع المرء الجدية والوقار والرفعة في عمل هذا البرلمان، فنحن مع هذا البرلمان، إزاء هيكل معنوي يجيد أكثر ما يجيد الزعيق والمشاكسة وزرع الملل في القلوب.

كثيرة هي المشاهد التي تحفر علامات الملل في ملامح مَن يتابع الجلسات الأخيرة لهذا الهيكل، بل ترى هذا الملل وقد تمّ التمهيد له عبر جملة من السلوكيات الغريبة العجيبة تبدأ بتلك الغاندية المستجدة المتمثلة بالمكوث في قاعة البرلمان لأكثر من سنة احتجاجاً على عدم انتخاب رئيس للبلاد، ولا تنتهي تلك السلوكيات مع رفع أحد ورثة المليشيات في مجلس النواب عقيرته بالصياح واصفاً زملاءه من النواب الآخرين بالمافيوية! على كل حال، وفي ما يتعلق بالمشهد الأخير بشكل خاص، لا يخفى على أي مواطن عاقل في هذا البلد أن البرلمان اللبناني بأكثريته الساحقة هو عبارة عن قاعة تضجّ بـ"باديغارديّات" زعماء الطوائف أو –كما هو الحال الآن– أبناء هؤلاء الزعماء من الشبيبة المهفهفين. لا مشرّعين في هذا البرلمان، فـ"الباديغاردية" هي السمة الأبرز، أما التشريع فيقع في باب الصدفة والمجاز.

يتميّز لبنان بكثرة الأحداث وتراكماتها ثم بِنُدرة الحلول، ومن المفارقات أن ما يُعرف بالندوة البرلمانية في هذا البلد لا يمكن وضعه إلا في خانة الأحداث، رغم أن جوهر العمل البرلماني هو أن يكون مطبخ الحلول، وبالتالي انسياب عمل بقية المؤسسات بما يتلاءم مع المصلحة العامة. لا يجد المرء حرجاً بوصف هذا البرلمان بالمصيبة أو بالكارثة، كارثة شاسعة وقد اكتفت برصيدها الخاص من الهزل والشرانية، وبشكل خاص الملل المقيت. غالباً ما يستدعي مشهد هذا المجلس متابعة المتلقي عبر شاشات التلفزة، لتخاطف نظرات بعض نوابه أثناء هذه الجلسة أو تلك، نظرات طائشة تراها تتوزع بين شاشات الخليوي وجدران القاعة وسقفها أو مداعبة الميكروفون الأخرق المنتصب أمام الأفواه. يحسب المشاهد أن كل واحد من هؤلاء النواب يستجدي انتهاء الجلسة كمن قد عيل صبره، وهو صبر أكثر ما يعبّر عن نفسه بابتسامات صفراء جافة، وفي بعض الأحيان بلهاء.

ثمّة مَن كتب مرة أن التشاؤم مُعدٍ في الغالب الأعم، بيد أن اللاتشاؤم حيال هذا النمط من البرلمانات يقع في باب السذاجة بالحد الأدنى للأمور، وصولاً إلى خداع الذات. تحقق عندي، لدى متابعتي الجلسات الأخيرة لهذه البرلمان، أن هذه الجلسات لا تتجاوز أن تكون امتداداً طبيعياً لمواسم الهزل والشرور، وفوق هذا كله مواسم الملل إلى حد لا يطاق. يا لقدرة هذا المجلس النيابي على صقل مشاعر السأم والضجر واللامبالاة حيال مستقبل هذه البلاد.

تبثّنا أخبار الممارسات التشريعية في العالم أن المشرّع أكثر ما يتمتّع بدقة المصطلح، متانة القول ورفعة العبارة، بما يتآلف مع الذوق السليم والأخلاق. أما في برلماننا هذا، فنشهد، مع كل جلسة، بلبلة المصطلح، هشاشة القول، ودنو العبارة من الزقاقية والإنتفاخ... والأمر سيّان.

لا معجم يلبي حاجة هذا البرلمان، إلا معجم الضجيج والإستشراس المليشيوي، والخندقة خلف متاريس سبعينات القرن المنصرم وثمانيناته العجاف. يبدو أن أكياس متاريس الحروب "الأهلية" لم تتهاوَ بعد داخل رؤوس بعض "مشرّعي" هذا المجلس/الدشمة.

في ما خلا مداومة معظم فَشَلة هذا البرلمان منذ عقود خلت، من النادر أن يمدّنا التاريخ بهذا الكم من رفاهية الفشل!

كان بورخيس يقول إن السياسة هي النشاط الأكثر خسة من بين كل الأنشطة البشرية. وأخذاً في الإعتبار مجلس النواب في لبنان، تجوز تكملة عبارة بورخيس بالقول: ... ومن أكثر الأنشطة مللاً فضلاً عن صفات أخرى.

ليس من بديهيات الأمور أن يكون كم هائل من الصور المتنوعة، هو بنهاية المطاف مجرد تنويع لصورة واحدة... إنها حال البرلمان اللبناني بعديد جلساته ووجوه ناسه وتراكم خيباته، ويا للمفارقة، بوحدة رأسه.

جاء في كتاب "عبقرية الكذب" لمؤرخ الأفكار فرانسوا نودلمان: "إن خياطة الكذب قد تُظهر تراقيع عويصة بين الحقائق وأضدادها... بيد أن بعض قُطب نسيج الكذبة قد يكون مخفياً، غير مرئي، بقدر مهارة الخياط في الرتق وإخفاء الخروق". فعبقرية الكذب، حسب نودلمان في كتابه الرائع، غالباً ما تعبّر عن نفسها بخطاب مجبول بالهواجس والرغبات والتصورات المجنونة عن الذات، وبشكل خاص بخطاب يجيد تعبيد الطرق والتحولات والتملصات. أما متانة الكذبة ووجاهة تشييدها، فإنها تنمّ أكثر ما تنمّ –ودائماً بحسب "عبقرية الكذب"– عن هشاشة الذات والوعي بنقاط ضعفها.

وبالعودة إلى موضوع هذه المادة، لا أخفي أن للملل في بعض الحالات جماليته الخاصة، أما ذلك الملل المتأتّي عن مجلس النواب اللبناني فإن جماليته، أقلّه بالنسبة إلي، تكمن في رغبة عارمة بالتخلص من "باديغارديي" زعماء الطوائف الذين سُمّوا نواباً، فضلاً عن التخلص من خرق بعض الآخرين وهلاهيلهم البالية. أما بالنسبة لأبناء بلدي ممن يتشبثون بهؤلاء، فربما من الواجب إحالتهم إلى عبارة وردت في كتاب شيّق بعنوان "في مدح الحماقة" للحكيم الهولندي إيراسموس (1466-1536)، وتقول العبارة: إن عقل بعض الناس مُعَدّ كي يفتتن بالكذب أكثر بكثير من افتتانه بالحقيقة.

وفي ما يتعلق بردّ رئيس حكومة تصريف الأعمال، على انتقادات نواب الأمة، بسبب الموازنة التي أعدّها، تراني وقد أعيتني القروض، أعتذر عن استكمال كتابة هذه المادة، وعلى رأس هذه القروض قرض الإسكان الشهير.          
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها