الثلاثاء 2024/03/19

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

لماذا كتبتُ مذكراتي في الدَّرَك؟

الثلاثاء 2024/03/19
لماذا كتبتُ مذكراتي في الدَّرَك؟
increase حجم الخط decrease
منذ أن أرسلتُ "مذكرات شرطي لبناني" إلى النشر وثمة سؤال ما انفكّ يراودني: لماذا كتبتُ مذكراتي عن أيام خدمتي في قوى الدرك؟

هناك مثل روماني يقول: "يحقّ لك كإنسان أن تجنّ مرة واحدة في الحياة". ربما نشر هذه المذكرات يقع في هذا الباب.

يطالعنا المؤرخ كمال الصليبي في سيرة حياته، "طائر على سنديانة"، بالعبارة التالية: "هذا الكتاب هو سجل لأشياء أذكرها". أفردتُ للقائي بالصليبي عندما كنت دركياً فصلاً في "مذكرات شرطي لبناني" وتراني أتماهى معه في عبارته المذكورة أعلاه. بيد أن بعض ما بثثته في كتابي هو محاولة لرتق الصورة المذرّرة لذاتي الدركية، وهو ما لم يكن في إطار توقعاتي لدى تفكيري الأولي في كتابة هذه المذكرات. يبدو أن لأحداث الماضي هذه القدرة التحفيزية على إعادة النظر في ذواتنا، وصولاً ربما إلى إعادة صياغة هذه الذوات. فللذاكرة سلطة لا يمكن تفاديها أو التواري عن سطوعها مهما بلغت درجة التحايل على هذه الذاكرة من آن لآن.

يقول المؤرخ الأميركي بول موراي "إن السيرة الذاتية هي فن المستحيل" (نقلاً عن: خالد طحطح – البيوغرافيا والتاريخ)، لكن، هل من الضرورة بمكان أن تكون السيرة الذاتية عملاً فنياً؟ ثمة ما يشبه الإجماع بين الذين قد تصدوا لدراسة هذا النوع من الكتابة على القول أن كتابة السيرة الذاتية هي مزيج من المحلي والعالمي، الشخصي والعام، الحقيقي والمتخيّل، الفن والعنف... وبالنسبة إلي، السيرة الدركية هي أنا وصوت جهاز اللاسلكي، أنا ومَحاضر التحقيق، أنا والدوريات النهارية والليلية وصولاً إلى ذلك المزج الغريب بين الكلمات وإطلاق النار.

يفتتح المؤرخ البريطاني إريك هوبزباوم مذكراته، "عصر مثير"، بالقول التالي: "لا أعرف متى تبدأ حياة الذاكرة"، وينهي هذه المذكرات الضخمة بالتنويه بكتابة المرء لمذكراته بغية أن تهتدي بها الأجيال المقبلة، إذ – والكلام لهوبزباوم – "العالم لن يصبح مكاناً أفضل من تلقاء ذاته". ولا مرة راودتني عبارة هوبزباوم الأخيرة طيلة انكبابي على كتابة مذكرات الشرطي الذي كنته، بل تراني كنت أقرب إلى العبارة التالية: فليذهب العالم إلى الجحيم. فالذاكرة غالباً ما تكون متحيزة إلى أحداث بعينها، وبالنسبة إليّ كثيرة جداً هي الأحداث الخاصة والعامة التي أمْلَت العبارة التي ذكرتها أعلاه.

من النافل أن نصّ الذاكرة هو نصّ غير منضبط، بل تُداخل هذا النص جملة من الممكنات والتخيلات والأماني والكذب على الآخرين والذات، وصولاً إلى الأخذ بالثأر من الماضي عبر بعض المفردات والعبارات ومع هذا يبقى واقع الماضي أكثر شساعة من رصف الكلمات. ينقل الفرنسي أندريه موروا، في الكتاب الذي وضعه عن كتابة السيرة الذاتية، عبارة للشاعر الأميركي والت ويتمان، تقول: "الواقع أكبر من أي حكاية نستطيع أن نقصّها... ومن الصعب على الإنسان عزل شخصه عن الركام الهائل من الأنقاض التاريخية". لكن ماذا لما تكون الحياة بعينها هي الأنقاض، وهو ما بثتّني إياه بوفرة حياتي الدركية، بدءاً من دقائق يوميات الإنسان اللبناني، وصولاً إلى الهيكل العام لهذه البقعة الجغرافية المتذبذبة والتي تدعى لبنان.

في سيرته الذاتية "حياتي خلف القضبان" يقول الأميركي دونالد لاوري: "إنه لأمر مريع أن ترى شخصاً يجنّ أمامك"، لكن الأمر أكثر هولاً عندما يكون هذا الشخص هو الوطن بعامة. جزء من تجربتي الدركية كانت محاولة مني لترصّد الجنون الذي يحايث مظهر دولتنا بشكل عام ودولتنا العميقة بشكل خاص، عبر رصدي لعمل دوائر هذه الدولة. فـ"فيما تمعن فيك الأشياء العادية" – إذا أردنا أن نستعير عنوان ديوان الشاعرة اللبنانية أصالة لمع – ثمة ما هو غير عادي على الإطلاق، يتحيّن فرصة الإنقضاض، بل ترى هذا اللاعادي يشكلك على غفلة منك في أغلب الأحيان، وهو ما احتلّ الحيّز الأكبر في سردية "مذكرات شرطي لبناني".

لست أدري طبيعة العلاقة التي يقيمها النصّ بعامة مع الذاكرة، بيد أن الذاكرة في بعض متونها الشريرة هي رغبة عارمة في الإنتقام. هي محاججة بل قد تكون أيضاً فعل مواجهة مع أسياد السيطرة على التذكر والنسيان ممن يرسمون تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا المؤجّل على الدوم.

أنبأتني تجربة كتابة المذكرات أن الذاكرة في بعض التباساتها هي رغبة في إعادة تشكيل المستقبل الذي قد هيّأه ماضٍ مريع، ماضٍ لا يحفل بنا كمهمشين، كمتسكعين، كعابري سبيل فوق دروب الحياة. يقول المصري أحمد أمين في "حياتي": "ما أنا إلا نتيجة حتمية لكل ما مرّ عليّ..."، وهو قول حق، بيد أن ما يتطابق معي كدركي لبناني إلى حدّ كبير قوله: "الحياة يوم واحد يتكرر...". لدى قراءتي لبعض فصول "مذكرات شرطي لبناني"، تراني تيقّنتُ بالفعل أن الأيام والشهور والسنين في لبنان لا تتعدى أن تكون يوماً واحداً يتكرر على الدوم وبلا انقطاع.

شكّك الفرنسي بيار بورديو، في قدرة الإنسان بشكل عام على أن يكون سيّد وقته بالتمام. وكأني ببورديو في هذا التشكيك الرائع زميلاً لي في أحد مخافر أو مفارز أو ثكنات مؤسسة قوى الأمن الداخلي، كثكنة الحلو مثلاً أو مخفر البسطة!! أيضاً وأيضاً ما ينطبق على رجال الشرطة في لبنان حيال هذه المسألة ينطبق أيضاً على سائر اللبنانيين.

أكثر ما تشي به كتابة المذكرات هو استحالة إلقاء القبض على ما قد يشكّل وحدة الشخصية الإنسانية، وربما إسرافي في السرد في "مذكرات شرطي لبناني" (406 صفحات) هو محاولة مني – باءت بالفشل – للقبض على هذه الوحدة.

بالعودة إلى أندريه موروا: "ربما المذكرات هي كتل من الكلمات التي تشفّ عن حقيقة أخرى". فبالنسبة للّاتين إن إنسان المذكرات إنما هو Homo Fictus، ومع هذا ثمة حقيقة لا يني الإنسان يتوسلها عبر التحديق في ما مرّ بحياته من وقائع وأحداث. فالأمر أشبه بأن يقف المرء على "حافة الهاوية"، حسب العنوان الشهير لكتاب روجيه شارتييه الذي خصص في كتابه هذا فصلاً عن ذلك الإنزياح الهائل بين التاريخ والذاكرة على الرغم من العلاقة القوية بينهما.

أثناء كتابتي "مذكرات شرطي لبناني" تراني انكببتُ على كم هائل من السير الذاتية: رجال، نساء، قرود، شياطين، أطفال، موتى، فضلاً عن مذكرات الأشياء والأمكنة والأبنية والطرق، وربما تقع مذكراتي كشرطي سابق في بعض وجوهها في خانة مذكرات الأمكنة التي قد خاضتني وخضتها: صوْر، طرابلس، بيروت، الجنوب وصولاً إلى أروقة وجدران وبيروقراطية وزارة الداخلية والبلديات حيث الإجتهاد لتحويلنا إلى صراصير على غرار صرصور كافكا قد بلغ أوجه.

يشكّك محمد عابد الجابري في مقدمته لكتاب مذكراته، "حفريات في الذاكرة"، في إمكانية موضعة هذا النمط من الكتابة في نوع بعينه..." هل يتعلّق الأمر بجنس في الكتابة جديد، أم بمجرد إسم آخر يضاف إلى لائحة الأسماء التي تطلق على جنس أدبي معروف؟"، يتساءل الجابري. إن تلك القدرة الهائلة على المباغتة والتي تتحلى بها الذاكرة، تشرّع بعمق لتساؤل الجابري حول نصّ الذكريات، حول ذلك الحفر الذاتي الذي يمارسه المرء داخل أروقة ما قد مضى وفات، وعثرة كتابة المذكرات في هذا السياق هي في محلها. فـ"العثور على حياة كُتبت جيداً هو في ندرة العثور على حياة عيشت جيداً"، كما يقول توماس كارليل، المؤرخ المتعمق في حيوات الكثير الكثير من الناس. وعطفاً على عبارة كارليل هذه، تراني على قناعة تامة بعدم جودة كل ما هو مبثوث بين دفتَيْ "مذكرات شرطي لبناني" أخذاً بعين الإعتبار طبيعة حياة الشرطي في لبنان وأنا ضمناً.

لست أدري لماذا كتبتُ هذه المذكرات. ربما، وبالعودة إلى المثل الروماني الذي استهليت به هذه المادة، ربما سبب كتابة هذه السيرة يعود إلى حكمة الجنون... ذلك الجنون الذي واتاني عن نفسه ومدّني بالتالي بفكرة كتابة هذا الكتاب.

جاء في الصفحة ما قبل الأخيرة من "مذكرات شرطي لبناني: "لست على ثقة إذا ما كانت هذه المذكرات كشفاً، أو أنها توار وغياب... لعلها انبساط أو ربما محاولة بريئة للبقاء طي الخفاء والكتمان، لكنها بكل الأحوال مباغتة لماضيّ الذي ما زال جاثماً حتى الآن".

زيّنتُ لنفسي أن أحتفل لوحدي بعد تأكدي من صدور قرار تقاعدي عبر ارتشافي القهوة في الكوستا كافيه، وكان ذلك في السابع من كانون الأول 2012..."ارتشفتُ آخر رشفة من فنجان القهوة وخرجتُ من الكافيه، ثم يممتُ نحو محل لبيع أكل الحيوانات، وقد استبدّت بي رغبة عارمة للإحتفال بتقاعدي مع القطط. اشتريت كيس طعام كبيراً ورحت أوزّع الطعام على قطط شارع الحمرا، تلك القطط التي تربطني بها مودة عميقة منذ بداياتي الأولى في هذا الشارع الذي يتبدد أمامي ناظري كتبدد الأضواء خلف الضباب" (مذكرات شرطي لبناني، المقطع الأخير من الصفحة الأخيرة).

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها