الثلاثاء 2024/04/02

آخر تحديث: 12:35 (بيروت)

تشيزاري بافيزي في "مهنة العيش"... جمالية اليأس وضرورته

الثلاثاء 2024/04/02
تشيزاري بافيزي في "مهنة العيش"... جمالية اليأس وضرورته
بافيزي
increase حجم الخط decrease
"يأتي الإنسان إلى العالم ليموت" (بافيزي)

ينهي الإيطالي تشيزاري بافيزي، "مهنة العيش"، بالعبارة التالية: "لن أكتب بعد الآن". قد يتبادر إلى الذهن أن تدوين بافيزي يومياته الممتدة بين العامين 1935 و1950 والتي عنونها "مهنة العيش"، هي محاولة من هذا الكاتب الإيطالي لتأمل الحياة انطلاقاً من تسجيل هذه اليوميات، بيد أن التوغّل في متون الكتاب يستدعي القول أنه تأمل في فكرة الإنتحار وصولاً للقول إنه في بعض اندفاعاته دعوة للإقدام عليه. فأكثر ما تنبئنا به "مهنة العيش" هو أن العيش بكل أحواله هو تمرين يومي على الإنتحار، ترتيب الذهن بما يتلاءم مع هذا الخيار.

 فالإنتحار قد يكون محاولة أخيرة بغية المحافظة على الذكريات الجميلة في عالم يضيق ذرعاً بهذه الذكريات، وهو في بعض وجوهه تلبية جامحة لأقصى شروط الوجود. فلا أحد في هذا العالم، بحسب بافيزي، "لا أحد البتة يفتقر إلى سبب وجيه للإنتحار". فالحياة كما يبثّها بافيزي في "مهنة العيش" تقوم على نظام إحالة إلى ما بعدها، إلى الموت، هذا الحدث العادي جداً مقارنة بمفارقة أن نكون أحياء... "يجب أن أعتاد العيش – يقول – كما لو أن ذلك كان عادياً". وليس الإنتحار في هذا السياق حدثاً مروعاً أو واقعة في غير محلها، فجملة يوميات "مهنة العيش" تشي أن الإنتحار هو نقطة الإرتكاز الرئيسية التي تقوم عليها الحياة... "فالحياة زنزانة – جاء في "مهنة العيش" – مَنْ يستطيع أن يجعل من زنزانته بيتاً؟".

أكثر ما يميّز شؤون الإنسان في هذا العالم، كما يرى بافيزي، هو عدم الإكتمال. أما شهوة السيطرة على أعمالنا عبر محاولة فهمها، إنما هي إشارة مؤقتة، لكن وهمية، لضرورة إنهاء هذه الأعمال بدءاً من حفر ساقية وصولاً إلى كتابة مجلدات. فلا فكرة تتسم بالإكتمال في بحر العيش الهائج إلا فكرة الإنتحار، وليس الإنضواء خارج حدود هذه الفكرة إلا تمريناً على الإنتظار... إنتظار الكارثة المقبلة، وبالتالي كما يقول بافيزي: "تأجيل الألم إلى الغد". فالعيش برمته هو جملة من الآلام، وليس التردد في الإقدام على الإنتحار بالأمر المهين، فما يهمّ في نهاية الأمر هو الإقدام عليه.

فليس التردّد حيال الإقدام على الإنتحار صدى للخوف من الموت وهو ما تهمس به يوميات بافيزي، بل ترى هذا التردّد بمثابة التلويح الأخير للحياة من جهة، والتلويح الأول للماوراء من جهة أخرى. فليس الإنتحار بالواقعة الغريبة في حياة كل منا، لكنها الأقرب للقلوب على الرغم مما قد يكتنفها من توار وغموض وتأجيل من آن لآن.

يشير بافيزي في واحدة من يومياته إلى أواصر تلك العلاقة التي تقوم بين الحرية والإنتحار، فـ"كل ما لا نستطيع القيام به وحدنا ينتقص من حريتنا"، والإنتحار باعتباره فعل الأنا بإطلاق هو تجسيد للحرية بالتمام. ولا يُخفى أن ثمة دوستويفسكية في موقف بافيزي هذا، لا سيما دوستويفسكي كتاب "الشياطين"، وكان للروائي الروسي تأثيراً هائلاً في بافيزي منذ بداياته الأولى حتى النهاية التي سأوردها في نهاية هذا المقال.

الحياة شائعة، ضجيجها يصمّ الآذان، أما قيمتها فتكمن في ماورائها المتين، وأكثر ما يعزز من قيمة هذه الشائعة هو التخلص من فكرة الزمن... "لكي تكتسب التجربة قيمة ماورائية يجب أن نتخلص من الزمن".

قد تنتاب المرء المرارة حيال أن يكون الأدب دعوة صريحة للموت، لكن الأمر مختلف جداً في كتاب "مهنة العيش" وذلك عطفاً على شتات التعريفات السلبية التي يقدمها بافيزي للحياة. ولعله في مقاربته لتاريخ الفلسفة – باعتبارها نص يجهد منذ بداياته الأولى لاستجلاء شروط الحياة والموت – يقدم بافيزي تعريفاً واضحاً للحياة. كتب بافيزي في شباط 1943: "بداية الفلسفة ليست الدهشة... بل اليأس"، ولنا أن نتخيل بالتالي جملة عقابيل هذا القول! لا يجد المرء غضاضة في القول كاستجابة لكتاب "مهنة العيش": لا قبر يحوي جسد الإنسان الذي يُقدم على الإنتحار، فالعالم سلفاً هو القبر، أما الحياة فلا تتجاوز أن تكون معجماً هائلاً تبعط فيه كلمات الموت، وليس الإنتحار من ثم إلا جمع شتات كل تلك الكلمات.

في كتابه "فكرة الثقافة" يقول الكاتب الإنكليزي تيري إيغلتون: "يغدو المرء حراً حين يكفّ عن الحاجة لمعرفة من يكون". لعل تدوين بافيزي ليومياته في كتاب "مهنة العيش" يشكّل استجابة حية لقلقه المفرط إزاء من يكون بحق. قد تكون تلك اليوميات استدراجاً للسكينة عبر مراكمة الكلمات، وقد تكون صدّاً لتداعي الماضي على الحاضر المأزوم، أما شتات بل تناثر نصّ تلك اليوميات، فتراه يعبّر من جهة الأسلوب عن شخص بافيزي بالذات... "من العبث بعد الآن أن أبحث في داخلي عن نقطة انطلاق".

في ما يتعلّق بأهمية الأسلوب بشكل عام، يرى الفيلسوف رولان بارت أنه هو ـ الأسلوب – من يشير إلى الجانب الخفي للكاتب. بالنسبة إلى بارت، ليست الحكايا والمرويات، إنما الأسلوب هو ما يقترن بالأسرار المخفية والوقائع المنسية للكاتب، بعمق غرائزه وعتمات دواخله وتناثر شخصه وتشظيه بل وفراره وهروبه من ذاته ومن الآخرين. ليس النص بالنسبة إلى بارت إلا طقساً يعلن عن ولادة الأسلوب ويفصح عن حقيقة الكاتب.

جاء في "مهنة العيش": "القاعدة البطولية الوحيدة: أن تكون وحيداً، وحيداً، وحيداً". هل ثمة، بناءً على هذا القول، من وحدة تضاهي وحدة الإنسان مع موته الخاص.

 على غرار كيريلوف، إحدى شخصيات رواية "الشياطين" لدوستويفسكي، حقق بافيزي قاعدته البطولية تلك عبر إقدامه على الإنتحار في 27 آب 1950، في غرفة بفندق في مدينة تورينو.  


(*) تشيزاري بافيزي، "مهنة العيش"، منشورات الجمل، ترجمة صالح الأشمر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها