الأحد 2024/03/10

آخر تحديث: 08:58 (بيروت)

حول قراءة الأدب بعامة

الأحد 2024/03/10
حول قراءة الأدب بعامة
القارئة لبيكاسو
increase حجم الخط decrease
يفتتح الارجنتيني البرتو مانغويل كتابه "تاريخ القراءة" بالقول إن صيادي الأسماك في جزر الهاواي يقرؤون حركة التيارات البحرية عبر تغميس أياديهم داخل الماء. نعم، ربما القراءة في بعض مضامينها هي انغماس كل الجسد في اللعبة السردية. فالقراءة في هذا السياق هي إعادة نظر جذرية بما يملك الإنسان من رصيد معرفي وحسي ووجداني خاص. وبالعودة إلى مانغويل نراه في كتاب آخر له، "فن القراءة"، يقول: "نحن ننشأ مصممين على العثور على قصة في كل شي. في المناظر الطبيعية، في السماوات، في وجوه الآخرين وبالطبع في الصور والكلمات".

لا أخال أنّ المرء يقتفي إبان فعل القراءة أثراً بعينه، ولا أخال أنه عندئذ مغبة رغبة ساذجة بإيجاد صدى لإلحاح معين في ذهنه. ربّما قراءة النص الأدبي، هي تنظيم لتجربة الوجود في العالم، لكن بعض الروايات هي دعوة صريحة أو مواربة لإعادة النظر بالعالم. 
(البرتو مانغويل)

في كتابه "ظاهرة الأدب" وتحت عنوان "ما الأدب؟" يقول الإنكليزي تيري إيغلتون إنّ الأدب لا جوهر له، وأنا أرى أن هذه اللاجوهرية هي ما تؤسس حرفياً جوهر الأدب. فالقراءة من هذا المنظور تنطوي أكثر ما تنطوي على  دعوة المتلقّي للخروج عبر كلمات الرواية أو القصة من مفردات القبيلة، الخروج من الأسيجة الجاهزة للكلمات. إن كلمات الأعمال الأدبية الكبرى لا تخاطب محض الذهن أو القلب فقط بل تراها – إذا ما أردنا أن نستعير القديس أوغسطينوس – تخاطب أيضاً البصر. فالإنكباب على النص هو في أحد حدوده ترتيب النظرة إلى كل ما حولنا، إنه في بعض مآلاته إنعام النظر في العالم. 

قد يرتّق النص تفسخات وجودنا، ونص آخر قد يعمل على تفتيق القطب التي تشدّ هذا الوجود، وفي كل من الحالتين، إن قراءة الأدب هي دعوة لتحرّي الجزئيات الدقيقة للعيش في العالم.
 
كان قدماء الإغريق يرون في مكابدة الشخص للكلمات المبثوثة في القصص أو القصائد تعزيزاً لما يدعونه ال phronesis أي القدرة على تدبّر العالم واستبصار مآلاته أما اللاتين فكانوا يستنجدون بكلمات نصوصهم بغية الوقوف على المنسي من التاريخ. فبالنسبة إلى اللاتين لا يمكن الشك أبداً بذاكرة الكلماتmemoria verborum.
قد تفرّ دلالة النص من بين يدي القارىء، لكن من قال إن الدلالة الأعمق للنصوص لا تمكن في هذا الفرار!!

كان الألماني أوغست شليغل يربط ربطاً لا انفصام فيه، بين الفن بعامة والأدب ضمناً وتوق الإنسان إلى الغموض. قد تكون القراءة فسحة أو مغامرة أو متعة لتزجية الوقت لكنها في كل الحالات هي انفلات وتسيّب وتداخل وتشابك في آن معاً. لا يجب أن يتوه عن البال أن الإله الإغريقي هرمس كان يجمع في شخصه ألوهية القراءة وفلتات الألسن وانتفاضة الأفئدة وبثّ الرسائل وتقاطع الطرقات، ومن النافل في هذا الصدد أن يكون اسمه العظيم الأساس الأولي لكلمة هيرمينوطيقا.

(تيري ايغلتون)

فالقراءة هي ممارسة تأويلية وليست بالتالي فعلاً تسلطياً إلا عند أصحاب الأيديولوجيات التي، هي دائما على حق، أو عند أصحاب الأفكار المعلبة والعقائد الصدئة أو المتفحمة أو النتنة. فالدلالة بعامة تقع في حقل الممكن والممكن لا حدود له، وليس من باب الصدفة أنّ ثمة من أثار في المباحث اللغوية السؤال التالي: هل الأثر الأدبي هو من نتاج المؤلف أو من نتاج القارىء؟ وحبذا لو كان مجال مناقشة هذا السؤال متاحاً في هذه العجالة. 

لا مسقط رأس للقراءة وليس من ضروب العبث أن يقول الإسباني الرائع رافاييل آلبرتي بعد خوضه لعقود وعقود غمار القراءة والكتابة: كم تثير اشمئزازي كلمة "مسقط الرأس".(المرج الضائع/ مذكرات رافاييل آلبرتي).

فالقراءة لا أصل لها وكل قراءة هي استئناف لأصل آخر إلى ما لا نهاية، هي خروج القارىء من كل فخ وهو ما شرّحه ملياً الباحث اللغوي لوي ماران عندما قال في كتابه "فخ السرد"، إن الفخ الذي ينصبه السرد للقارىء يكمن جوهره في إخراج هذا القارىء من كل الأفخاخ. وبتأويلي الشخصي لهذه العبارة: القراءة هي تمرين يومي على الحرية.

ثمة من يرى أن العالم بما يكتنفه من أحداث جسام هو أكثر وفرة من الكلمات ولا أدب من ثم يمكن أن يفي الشرط المأزوم للعالم، بَيْدَ أنه غاب عن بال أصحاب هذا الرأي الشيّق أن لا شيء يمنع أن تتغذى لغة الأدب بتلك الخبرات اللالغوية. فبحسب بعض جماعات الألسنية أن هذه الخبرات هي ما يحول دون اضمحلال اللغة، وبشكل خاص لغة الأدب، ولا أظنّ أن نيرودا في مذكراته، "أعترف أنني قد عشتُ"، كان بعيداً عن هذه النظرة حينما تكلم عن ليالي القراءة المثقوبة بآلاف الكلمات وآلاف الحشرات.

قد تكون القراءة فعل مؤازرة للصمت، للإختلاء وللوحدة لكنها أيضاً فعل مؤازرة للممكنات، والأدب في هذا السياق هو مرادف للحياة بل هو امتداد – أكاد أن أقول – عضوي لها.

غالباً ما يقع بي الظنّ أنّ للقراءة جسداً يصدّ أو يحتضن لكنه دوماً يمتلك تلك القدرة الهائلة على الإغراء. وما من مانع في هذا الصدد أن يكون فعل القراءة هو أيضاً فعل تلصص، اختلاس نظر، استرقاق سمع كما تقول الكندية مارغريت آتوود في رائعتها النقدية "مفاوضة الموتى"، أو أن تكون القراءة بعامة فعلاَ طائشاً مترددا، غير محترس، بحيث نقرأ، كما يقول رولان بارت في "لذة النص"، وكأننا ذبابة تطير في فضاء غرفة وتقوم بانعطافات مفاجئة ونهائية على نحو كاذب... منهمكة وغير مجدية في آن.

(رولان بارت)

فلا بأس بأن تدفعنا القراءة إلى أن يعقد الإرتياب حواجبنا أو أن تمطّ الدهشة شفاهنا أو أن تقع أصابعنا مغبة هرش شعرنا (بالنسبة للذين يملكون الشعر). 

في واحدة من روائعه يقول البرازيلي ماشادو أن الكلمات جعلتْ الحياة تتلوّى في صدره، وأنا أصدقه في هذا الأمر. إن القراءة قد تدفعنا إلى التحوّط من العالم لكنه تحوّط يستبطن صفع ولطم وركل الوجه القذر للعالم. لا بأس بأن يكون فعل القراءة دعوة صارمة للإنتقام وبنفس الوقت دعوة بريئة لتبني الحماقة... يقول تشيزاري بافيزي في "مهنة العيش" إن الشعر يبدأ عندما يقول أحمق ما عن البحر أنه يشبه بقعة زيت... ويا لروعة أن يكون المرء أحمقَ في هذا السياق، يا لروعة أن يفلت المرء عنان مخيلته أثناء محاولاته إلقاء القبض على ما تيسّر من دلالات المقاطع والكلمات بل والحروف وصولاً إلى الفواصل والنقاط.

في نهاية الأمر وبالعودة إلى الأصدقاء الإغريق، القراءة هي تلبية لحاجة لا نكفّ عن اشتهائها إزاء وعورة العالم وكثرة منحدراته، إنها حاجتنا إلى، وبالمصطلح الإغريقي، ال ataraxia أي السلام الداخلي والركون إلى الطمأنينة المتولدة من رحم ذواتنا.

يدعو طبيب الأمراض العقلية في رواية "دفاع لوجين" لفلاديمير نابوكوف، خطيبة لوجين إلى صدّ خطيبها عن قراءة أعمال دوستويفسكي بعد أن أخذ يتماثل للشفاء، أما الصحافي العالمي المختص في قضايا الإرهاب جان شارل بريزار فيخبرنا في الكتاب الذي وضعه عن أبي مصعب الزرقاوي أن هذا الأخير عندما كان في أحد السجون استشاط غضباً عندما لمح أحد رفاقه ويدعى أبي دوما مأخوذاً في إحدى روايات دوستويفسكي داعياً إياه إلى رمي هذا الكتاب، "الجريمة والعقاب"، والكف عن قراءة الكفرة. 

في نهاية المطاف ربما القراءة – وليست قراءة دوستويفسكي حصراً- هي تنويع بطول المسافة التي تقع بين نابوكوف وأبي مصعب الزرقاوي. أما تلك المسافة الشاسعة والممتدة بين دوستويفسكي نابوكوف ودوستويفسكي الزرقاوي فسوف تكون مادة المقالة التالية في حال أنعم الله علينا بطول البقاء...  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها