الأربعاء 2024/01/31

آخر تحديث: 16:03 (بيروت)

صورة القائد وصورة الشهيد

الأربعاء 2024/01/31
صورة القائد وصورة الشهيد
"أمّ الشهيد" - يوسف عبدلكي
increase حجم الخط decrease
صورة القائد هي خطاب من نمط آخر، خطاب بصري فضفاض، خطاب حكايات كثيرة. فصورة القائد، فضلاً عن كونها الحاضر المنتشي، هي أيضاً التاريخ الذي تتأسس "هويته السردية" بشكل خاص على صور الشهداء بعامة. إن صورة القائد هي على الدوام، فعل مضاعفة لكل صورة من صور الشهداء، بل إن هذه الصورة هي في بعض مفاعيلها بمثابة استمالة للرغبات التي تثيرها قيمة "الشهادة".

لا تستدعي صورة القائد محض البصر، لا علاقة لهذه الصورة بمحض نظام الرؤية. فصورة القائد، وقد اختَزَلتْ صور الشهداء كلهم، تستدعي بالضرورة نظام تلقٍّ آخر يستمد مضامينه من فحوى الشهادة، وفي البُعد الأخير للأمور تستدعي تلك الصورة هندسة محددة للروح، لأرواح أولئك الذين يشخصون في تلك الصورة... صورة القائد.

فصورة القائد ليست تلك المساحة المؤطرة والمعلقة داخل البيوت وفوق الجدران والأعمدة، بل إن تلك الصورة تستطيل وتتمدد عبر صور أخرى... عبر صور الشهداء. فإذا كانت صورة الشهيد هي سيرته الذاتية، وقد تكدّستْ داخل برواز محدد، فإن صورة القائد هي فعل مضاعفة يومية لصورة الشهيد في بيئات الإستشهاد. يخبرنا تاريخ القادة والشهداء أن المقاتلين الرومان كانوا ينطقون أمام قائدهم بالعبارة التالية قبل توجههم إلى الحروب: morituri te salutant أي، "الذين سيموتون يحيّونك"، وتجوز ترجمتها في بلادنا المتهالكة بـ "لبيك يا قائد" أو "فداك يا قائد". أما في زمننا الممل، فإن صور الشهداء المنتشرة في تلك القرى التعيسة أو في الضواحي المنكوبة تراها تقول: إن انتشار صورنا هو تعزيز لحضورك يا قائدنا. فحتى المكان في حضرة الصورة العملاقة للقائد هو ضيف هذه الصورة، فالمكان بحضرة تلك العملقة البصرية لا يتجاوز أن يكون محل اختزال. فهندسة المكان في هذا السياق هي بالعمق هندسة نظام رؤية الصورة... صورة القائد!

فصورة القائد في هذا السياق ليست فقط محل استحواذ بصري من قِبَل الآخرين، بل هي البصر بعامة وقد شيّدتْ بنيانها الهائل بكمٍّ ضخم من صور أخرى. فهذه الصورة وقد تعززتْ بهذا الكم من الموتى، تصير ببساطةٍ، بداهة العين ومحل استضافة دائمة للنظرات واللفتات وطول النظر.

لا علاقة للبصيرة بنظام تشكيل البصر، بالنسبة لمتلقّي صورة القائد، ذلك أن صورته هي البصر والبصيرة، وهي أيضاً تلك المسافة الضبابية بينهما. شأن كل شيء في العالم، لا شكل نهائياً لصورة الشهيد، إلا عبر صورة القائد، ولا إطار يحفظها إلا إطار اختزالها في تلك الملامح التي تبثّها هذه الصورة الأخيرة.

ثمة بين من تصدّوا لقضايا الموت بعامة، مَن رأى في الشهيد بشكل عام أساساً لكل يوتوبيا ممكنة، بيد أن هذه اليوتوبيا المؤجلة أبداً وعلى الدوام، تلوح لناس الشهداء وأهلهم عبر عَظَمَة صورة القائد. فصورة القائد المنطوية بالضرورة على كل صور الشهداء، هي زخم طافح للبصر، وهي أيضاً انتشال البصر من ضبابية العالم المُعادي، الضاري وشديد التجهّم والضراوة. لا ريب أن الإمساك بالفضاء المطلق لعيون ناس القائد، عبر صورته الهائلة، يلبّي حاجة هؤلاء الناس لنظام معيّن للحقيقية... وعذراً لهذا الإستطراد الذي لا بدّ منه.

فنحن هنا إزاء نمط شيّق من الهدهدة البصرية، من الطبطبة العينية بصرف النظر عن أن كل الصور، بما فيها صورة القائد، قد تكون حفلة تنكرية للهزيمة. لا ينتظر الزمن العين، ولا يجمد لغاية بصرية بعينها، فجريان الزمن يرفض استمهال العين له، ثم أن ركضه اللامتناهي تراه يستخفّ بتحديقة لا تخلص. بيد أن صورة القائد المنسوجة من خيطان مجمل صور الشهداء تملك تلك القدرة الخارقة على تجميد الزمن، تملك تلك القوة التي تهيء كل سبل الإنزواء البصري عن العالم.

إن هذا المعرض الضخم من الصور المختزلة في صورة واحدة، يقوم على ندرة الوقت... إن هذا الأرشيف الهائل من الجثث المنسية، لا يأخذ بالاً إزاء تعاقب السنين. فهو، وقد أضحى تعويذة، يأبى الإنخراط –شأن كل التعاويذ– في الروزنامة الزمنية للعالم. فهذه الصورة هي الزمن، هي الوقت الذي ترصده العيون. نحن هنا حيال ما يمكن أن نطلق عليه الإيغو البصري أو السوبر نظرة.

إن جسد الشهيد في ذوبانه الكلّي بجسد القائد، عبر الصورة، يكفّ عن أن يكون جسداً حربجياً، إذ عبر هذا الذوبان هو يتخطى العالم بكل مضامينه المادية، وجسده الميت في هذا السياق هو الصورة الحقيقية للعالم. فالصورة هنا هي الحقيقة، أما العالم فلا يتعدى أن يكون مجازاً مهلهلاً تنقصه المتانة والرفعة.

فإذن، ليست صورة القائد كما أُريد لها أن تكون، مجرد هيئة بصرية مؤطرة بالخشب أو بالمعدن. فهذه الصورة، وعبر تلميحات القائد، عبر إطلالاته وتواريه، أقواله ووعوده، إن هذه الصورة هي في مآلها الأخير بمثابة تطهّر بصري لأولئك الذي يشخصون بأبصارهم إليها. هي، وقد انطوت على صور كل الذين قد استشهدوا والذين سوف يستشهدون، تمرين يومي على تدجين العين وترتيب نظراتها.

فصورة القائد، وكونه قائداً، أقصى ما تتوخاه هو أن تكون خريطة للهيمنة على البصر، بوصلة للإستحواذ على الأفئدة. فتلك الصورة، وقد مهّدتْ كل السبل لأن تكون جُملة الصور في آن معاً، تكفّ عن أن تكون صورة، إذ أنها عندئذ نافذة عين ناس القائد وقومه، نافذة عينهم على العالم.    
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها