الجمعة 2024/01/12

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

جورجي كوراسوف...عبقري قالوا له أنه يفتقر للإحساس باللون

الجمعة 2024/01/12
increase حجم الخط decrease
حين نظرت إلى صورة جورجي كوراسوف الفوتوغرافية، بعدما كنت اطلعت على أعماله، التي سبقت التعرّف على هيئته، وجدتُني أمام وجه مألوف. عادت بي الذكريات إلى الوراء، واستشرت ذاكرتي البصرية التي "أفخر" بها، لأعثر بين تلافيفها على حقيقة رؤيتي له مرة أو مرتين، منتصف ثمانينات القرن الماضي، وهو لم يكن فناناً معروفاً حينذاك، في لقاء أو معرض فني في مدينة لينينغراد، وهي المدينة التي تابعت دراستي فيها خلال تلك الفترة.

كان كوراسوف (مواليد العام 1958) قد أنهى دراسته بالكاد في ذلك الوقت، في أكاديمية الفنون الجميلة، بحسب ما ورد في سيرته، وذلك في البلد الذي كان سوفياتياً. لا يزال الفنان يعيش ويعمل في المكان نفسه، لكن البلد الآن هو روسيا، والمدينة تسمى سان بطرسبورغ،  ومن دون أن يغادر مكانه، يبدو أن جورجي قد هاجر من بلد سوريالي إلى آخر. فقد كانت مدينته الأصلية غير عقلانية منذ لحظة تأسيسها، إذ تقع على خط العرض نفسه للشواطئ الجنوبية لألاسكا، على دلتا نهر نيفا المستنقعية، في مكان لم يستقر أحد فيه من قبل، حيث أنشأ بطرس الأكبر هذه العاصمة الجديدة في تلك المنطقة الموحشة، على حافة إمبراطورية.



في تلك البقعة، وعلى الأرض المسطحة تمامًا التي تقطعها الأنهار والجداول والقنوات، رسم المهندسون المعماريون الأوروبيون، الذين استقدمهم القيصر الروسي، طرقًا وشوارع مستقيمة وميادين واسعة كما تُرسم الصور على القماش، وقاموا ببناء أروقة يونانية ورومانية وقصور باروكية، ونصبوا منحوتات ونوافير، وسط تلك التربة الصقيعية حيث يهيمن الجليد والصقيع على نصف العام، والرطوبة والمطر على النصف الآخر. وقد يكون من الصعب العثور على مدينة أكثر اصطناعية، فنية وخلابة، كما هي سان بطرسبورغ، بحيث تُطلق عليها تسمية "بندقية الشمال".

قضى جورجي طفولته في ضواحي لينينغراد، شمالي المدينة، في شقة صغيرة ذات نوافذ تطل على فناء أصغر. وبقدر ما يتذكّر، فقد قام بتشكيل الأشياء من البلاستيسين، ورسمها على عتبات النوافذ الخشبية الواسعة. لم يكن هناك الكثير من طرق التسلية ذات الطابع الجمالي في تلك الأنحاء، وما قام به كوراسوف لا يتعدّى كونه تعويضاً عن بساطة الحياة اليومية الرمادية، في غياب الضوء والألوان الزاهية. وإذ شاء الإنتساب لاحقاً إلى أكاديمية الفنون، فبعد اختبار قدراته الفنية، تم التوضيح له بأدب أنه لا يصلح للإنتساب إلى قسم الرسم، لأنه كان يفتقر تمامًا إلى الإحساس باللون. واقترحت عليه اللجنة الفاحصة أن ينضم إلى فصل النحت، وذلك في العام 1977.

أمضى الفنان ست سنوات في المحترف الواسع للمبنى الذي شيّد في عهد كاترين العظيمة، أواخر القرن الثامن عشر، وذلك ضمن تلك الممرات القاتمة والضيقة، المقببة والعالية بشكل لا يصدق، والاستديوهات الواسعة والباردة. كان المكان مسكونًا بأشباح أساتذة الحقبات الماضية الذين ماتوا منذ زمن طويل، وكان تأثيرهم أكثر ميلاً إلى الواقعية من المدافعين عن الواقعية الاشتراكية والماركسية اللينينية نفسها. بيد أن تلك السنوات في الأكاديمية كانت من أفضل سنوات حياته، إذ كوّن صداقات مع زملائه في الدراسة ما زالت قائمة حتى اللحظة.



في ذلك الوقت، التقى جورجي بـZina (زيناييدا)، الفتاة الرائعة التي أصبحت زوجته في ما بعد، واحتلت بعد مساحة حياته كلّها تقريبًا، سواء المادية، أو الإبداعية في أعماله. كانت البلاد من حوله حينذاك في حالة من الإضطراب، في ذروة "البريسترويكا" التي أطلقها غورباتشوف، حيث كان الناس يروون عطشهم في الحصول على المعلومات، بينما يصارعون من أجل لقمة العيش. لم تكن الأمور سهلة، وخصوصاً بالنسبة للفنانين – النحاتين. فالنحت، كما هو معروف، هو شكل من أشكال الفن الذي قد يزدهر لدى الدول الغنية أو الشمولية، في وقت لم تعد الدولة الشمولية قائمة كما في السابق، في حين أنها لم تصبح غنية. بدأ جورجي كوراسوف مزاولة الرسم، لكن سرعان ما أدرك أن بيع رسومه بأي سعر مقبول سيكون مستحيلاً، ولذا كان عليه إطعام أسرته من خلال إنتاج أعمال البالباستيل الصغيرة الحجم، التي باعها جورجي من خلال صالات عرض صغيرة تتعامل بشكل رئيسي في مجال الهدايا التذكارية للسياح الأجانب (كنا شهدنا شخصياً هذا الوضع خلال فترة دراستنا في روسيا).

في العام 1991 انهار الاتحاد السوفييتي. وبحلول ذلك الوقت، كان كوراسوف قد كدّس مجموعة كبيرة من الأعمال، لكن لم تكن لديه أي فكرة على الإطلاق عما سيفعله بها. بدا المستقبل قاتماً. في العام 1993 عُرضت أعماله للمرة الأولى في الولايات المتحدة، ومنذ ذلك الحين، قام الفنان بعرض لوحاته وبيعها حصريًا في أميركا الشمالية. وفي الواقع، وإذ كانت قد مرت سنوات عديدة منذ أن ترك عالم النحت في روسيا، فهو لم يُحتسب أبدًا من عالم الرسم هناك، واعتقد الكثيرون أنه هاجر بسبب غياب أعماله عن المعارض الروسية. على أساس هذه الفرضية، ينظر الأميركيون إلى جورجي كوراسوف على أساس كونه فناناً روسياً، في حين يعتبره الروس فناناً أميركياً. إضافة إلى ذلك، يعتقد الرسامون أنه نحات، بينما يوقن النحاتون أنه رسام.

"زينا" وشيء من بيكاسو 
في ما يتعلق بالموضوع، أو الموضوعات، فليست صعبة ملاحظة أن زوجة الفنان وملهمته في الوقت نفسه هي العنصر الحاضر في معظم أعماله، ضمن مواقف وظروف وأوضاع شتّى. هذه العلاقة الحميمة والدائمة بالتيمة لا نراها كثيراً في الفن التشكيلي. لقد خصص بيكاسو، على سبيل المثال، وليس المساواة الفنية مع كوراسوف، أعمالاً عديدة لأولغا خاخلوفا، لكنها لم تكن كثيرة. كما لم "يقصّر" سلفادور دالي، إلى حد ما، تجاه إيلينا إيفانوفنا دياكونوفا، التي صار اسمها غالا دالي، إثر زواجه منها (بعدما اختطفها من بول إيلوار). وتشاء المصادفة أن تكون النساء الثلاث المذكورات، روسيات. إن في الأمر سراً من دون شك، لا يدركه إلاّ الراسخون في الفن. 

لقد تدرب كوراسوف كنحات، وهو الآن رسام. وكرسام معاصر، اختار الرسم بأسلوب تكعيبي يذكرنا بأسلوب بيكاسو في منطلقاته العامة، بحسب ما يُقال عنه، هذا إذا ما شئنا تبسيط الأمور من دون الذهاب بعيداً في التحليل. اعتقد أساتذته في الأصل أنه ليس لديه أي إحساس باللون، واليوم، على العكس من ذلك، أصبحت لوحاته مشبعة باللون الأحمر الداكن والبنفسجي والأصفر والفيروزي. قماشات مجزأة بخطوط ودوائر ومستطيلات، دفعت الكثيرين إلى وصمه بتهمة التكعيبية، علماً إن العلاقة بين التكعيبية ونتاج جورجي كوراسوف تتمثل أساساً في أشكال شخصياته ووجوهها المثلثة، وتفتيت الرسم إلى أشكال هندسية. هذا النتاج يحتوي، كذلك، على عناصر ما بعد الحداثة والطليعية الجديدة مع قيم جديدة يلعب الضوء والصدفة فيها دورًا مهمًا للغاية، فضلاً عن طريقة مختلفة لإظهار الفضاء والطبيعة. وإذ ندرك أن مفاهيم رياضية تكمن في أساس بناء اللوحة، فيمكن القول إن تمثيل الفنان للأشكال يقع في صلب اهتماماته. ولا شك أن أحد العنصرين اللذين جذباً أكبر قدر من الاهتمام في أعمال كوراسوف كان الشكل الذي يستخدم فيه الهندسة في أعماله. ومن المثير للإهتمام أنه، وبعد معاينة هذه التركيبات للحظات، يمكننا أن ندرك  إن البنية الهندسية المعقدة التي ابتكرها تشير إلى التكعيبية والبنائية في الوقت نفسه(*)

هكذا، وبعيداً من سماء سان بطرسبورغ الشتوية القاتمة وعديمة اللون، تتألق لوحات كوراسوف وكأنها حجارة كريمة تحت أشعة الشمس المبهرة، ما يدل، مرة أخرى، أن في إمكان النتاج الفني أن يتخطّى القوالب النمطية ويتجاوزها.. هروباً من المألوف، وبحثاً عن الفانتازيا المتفردة.


(*) في ما يتعلّق بهذا الأسلوب، كان كوراسوف قد اتهم مصممة الغرافيك المصرية غادة والي بسرقة أربع لوحات من أعماله، واستخدامها في جداريات محطة مترو كلية البنات في القاهرة، بمباركة من الحكومة المصرية (راجع "المدن"- الثلاثاء 5 / 7 / 2022)
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها