الأحد 2024/03/31

آخر تحديث: 08:35 (بيروت)

الإكوادوري أوسفالدو غواياسامين... رسام الأجساد المعذبة والأيقونات المسيحية

الأحد 2024/03/31
increase حجم الخط decrease

لطالما خطر في بالنا الفنان الإكوادوري أوسفالدو غواياسامين في الآونة الأخيرة. يعود ذلك إلى أن غواياسامين كان كرّس جزءاً كبيراً من نتاجه الفني من أجل رسم حالات الفقر، والإستغلال، والقمع، والديكتاتورية والعنصرية. هذه الأمور نشهد حضورها في الوقت الحالي، أكان في لبنان أو البلاد المحيطة بنا على مستوى معيّن، أو في غزّة على نطاق واسع يشمل قطاعاً بكامله، بحيث لم يسلم أحد من سكان هذا القطاع من معاناة مستمرّة منذ أشهر، ولا نعلم متى ستنتهي.

لقد صُنف غواياسامين (1919- 1999) كرسام تعبيري واقعي اجتماعي، وكأحد أساتذة الفن الإكوادوري العظماء من بين آخرين، إدواردو كينغمان وإنريكي تابارا وفيليكس أراوز وخوان فيلافورتي وأنيبال فيلاسيس. ظهرت موهبته الفنية في سن مبكرة جدًا، وكان يبيع  لوحاته في ساحات كيتو عاصمة الإكوادور. دخل مدرسة الفنون في العام 1932، وذلك بالرغم من الوضع المادي المتواضع لعائلته ومعارضة والده. ومن الحوادث التي تركت أثراً كبيراً في نفسه، في شبابه،  كان وفاة صديقه مانغاريس، خلال المظاهرة العمالية المعروفة باسم Guerra de los Cuatro Dias – (حرب الأيام الأربعة). من ذلك اليوم فصاعدا، سييصبح الإنسان والمجتمع الذي يعيش فيه أكثر قتامة أمام عينيه. نظّم معرضه الأول العام 1942، وهو في الثالثة والعشرين من عمره في مسقط رأسه. إثر ذلك، تم  شراء العديد من لوحاته بواسطة نيلسون روكفلر الذي ظل أحد أهم رعاته. وفي العام نفسه، سافر إلى الولايات المتحدة والمكسيك، وفي البلد الأخير التقى بالرسام الجداري الشهير خوسيه كليمنتي أوروسكو، وأصبح أحد تلاميذه.

وقد تجلّى تأثير أوروسكو في استخدام غواياسامين للأشكال القوية والأجساد المعذبة والأيقونات المسيحية والألوان الداكنة المفعمة بالحيوية. وإذ كان فخوراً جدًا بتراثه الأصلي، فقد قام غواياسامين بدمج موضوعات السكان الأصليين في عمله، وكشف عن العنف والمعاناة التي تعيشها هذه المجموعة وغيرها من شرائح المجتمع المحرومة. وعلى غرار رسامي الجداريات المكسيكيين، اعتنق الإنسانية وأدرك قدرتها على الإبداع ولسنا في حاجة إلى جهد كبير كي نتبين أن نتاج غواياسامين يجسّد، بقوة تعبيرية لافتة، القمع والعنصرية والفقر وعدم المساواة المنتشرة في بلدان أميركا الجنوبية. وهو يتألف من لوحات قماشية وأخرى جدارية ومنحوتات. تعكس الجداريات الكبيرة الحجم التي نفذها تأثير رسامي الجداريات المكسيكيين، الذين بلغت شهرتهم العالم أجمع، وخاصة خوسيه كليمنتي أوروزكو، ولكن أيضًا بابلو بيكاسو. يمكن العثور على بعض لوحاته الجدارية في كيتو، ولا سيما في قصر الحكومة، والجامعة المركزية ومجلس المحافظة، ولكن أيضًا في مطار باراخاس في مدريد، ومقر اليونسكو في باريس والبرلمان اللاتيني الأميركي من ساو باولو.


ويركز الفنان في أعماله التصويرية على اللون، والإضاءة المختلفة والظلال والنقوش، من خلال اعتماد أشكال مبسطة. إلى ذلك، لم يتوانَ غواياسامين عن اللجوء إلى أحجام كبيرة، تميزت بمخارج تأليفية حادة، وقد طغت الناحية الإجتماعية على هذه الأعمال، كما أشرنا أعلاه، كما نفّذ العديد من البورتريهات والصور الشخصية، لدرجة أن أعماله في هذا المجال تخطّى عددها الـ13 ألفاً.

ويمكن القول إن نتاج الفنان ينقسم إلى ثلاث فترات رئيسية:

• "El camino del llanto" ("طريق الرثاء"، Huacayñan في الكيتشوا)، وهي مجموعة من مائة وثلاث لوحات، تم إنتاجها بين عامي 1944 و1945.

• "لا إيداد دي إيرا" ("عصر الغضب")، التي هي عبارة عن مجموعة من مائة وخمسين لوحة تم تنفيذها على مدى ثلاثين عامًا، بين عامي 1961 و1990. وتُظهر هذه الفترة معاناة وألم السكان الأصليين في جبال الأنديز، كما تتضمّن إدانة واضحة لظروف العاملين في المناجم المعيشية، وبشكل أعم، استغلال الإنسان للإنسان من خلال الديكتاتوريات، وما قامت به إبادة جماعية، وغيرها من الهجمات التي تشنها الدول القوية والإمبريالية. هذا، وقد تشكّلت أعمال كثيرة له ضمن مجموعات Series، ولا سيما مجموعة أو سلسلة الأيدي خلال هذه الفترة.


وينبغي القول إن "مجموعة الأيدي" هذه هي الأكثر شهرة لدى الفنان، إذ أن مجرّد معاينة أحد أعمال هذه المجموعة لن يتردد المشاهد العارف حيال نسبها إلى غواياسامين. وفي هذا المجال، لا بد من القول إن بعض الفنانين في بلاد مختلفة، ومن بينهم بعض الفنانين العرب، حاولوا تقليد الفنان في طريقة رسمه للأيدي، وقد أتى هذا التقليد إما مباشراً، أو من خلال عناصر معينة، ويمكن كشفه من دون جهد كبير.


• "La Edad de la Ternura" ("عصر الحنان") وهي الفترة التي عمل خلالها على رابطة الأمومة، الأم، المرأة، كمصدر عزاء في التجارب، ومصدر شجاعة من خلال مقاومتها للإذلال، وفيها تحية من الفنان لنساء العالم أجمع.

الفنان الباحث عن الهوية

غالبًا ما نلحظ في لوحات غواياسامين ومنحوتاته إشادة بتاريخ بلاده وروعتها، ولجذوره الأميركية الأصلية التي يفتخر بها، وهي التي تلعب دوراً وازناً في فنه، وخلال رحلاته في جميع أنحاء أميركا الجنوبية، تعلّم أن يفهم بشكل أفضل تاريخ هذه القارة، وعادات سكانها الأميركيين الأصليين وتقاليدهم. وقد أدى التعايش بين تراث السكان الأصليين والأوروبيين والأفارقة، وغيره من تراث الأجداد في مجتمعات أميركا اللاتينية إلى ولادة مزيج عميق وديناميكي من الثقافات والهويات. لقد أثار المزج والتهجين في أميركا اللاتينية تساؤلات حرجة حول مفهوم العرق وأصوله. وتكشف هذه الأسئلة أيضًا الترابط المعقد مع النسيج الأوسع للهوية الثقافية في المنطقة بكاملها.

وقام الفنان ببناء متحف في كيتو جزئيًا للمساعدة في الأبحاث الأثرية، وتعزيز الحفاظ على الأعمال الهندية القديمة. في هذا المتحف نجد قطعاً أثرية من عصر ما قبل كولومبوس، ومجموعة رائعة من الصلبان. كما تضم هذه المجموعة نماذج من الفن الاستعماري، وفي شكل أساسي من أعمال مدرسة كيتو، بالإضافة إلى بعض الأعمال من مدرسة كوسكو. ويتميز أسلوب مدرسة كوسكو، الساذج تمامًا، بدمج العناصر الرمزية الأصلية في اللوحات الدينية المسيحية. أما طراز مدرسة كيتو  فهو أكثر "أوروبيًا"، ولكنه مع ذلك يحتوي على العديد من التفاصيل الأنديزية النموذجية (مثل الخدود الوردية للأطفال). ومما يمكن رؤيته في المتحف أيضاً العديد من الأعمال التي تمثل المسيحيين المصلوبين (مدارس كيتو وكوينكا)، بأجسادهم المكدومة بالكامل، مع وجوههم التي حافظت على نعومة نسبية.


أعمال الفنان الجوّالة وإنجازاته

خلال حياته المهنية، عرض أعماله في معظم عواصم أميركا الشمالية وفي العديد من الدول الأوروبية: لينينغراد (في متحف الأرميتاج)، وموسكو، وبراغ، وروما، ومدريد، وبرشلونة، ووارسو. كما شارك في ما يقرب من مائتي حدث فني.
 

هذا، وقد حصل غواياسامين في شبابه على العديد من الجوائز الوطنية. ففي العام 1948، فاز بالجائزة الأولى في الصالون الوطني الإكوادوري لرسامي ومصممي الأعمال بالألوان المائية. وفي العام 1955، فاز بالجائزة الأولى في البينالي الثالث للفن الإسباني الأميركي في برشلونة عن عمله "العود الأبيض". كذلك، في العام 1957، تم إعلانه كأفضل رسام في أميركا الجنوبية خلال بينالي ساو باولو الرابع. وتم توزيع العديد من منحوتاته البرونزية الضخمة على أماكن في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك نسر الكوندور، وهو أحد آخر منحوتاته، والذي صممه مع ابن أخيه روبرتو لاميل، وعرض في مركز ميامي في فلوريدا. وفي العام 1992 حصل على جائزة يوجينيو إسبيجو، وهي أعلى جائزة تمنحها حكومة الإكوادور. وقد افتتح غواياسامين شخصياً معارضه الأخيرة في قصر لوكسمبورغ في باريس، وكذلك في قصر الزجاج في بوينس آيرس عام 1995.

 

توفي أوزوالدو غواياسامين بنوبة قلبية في 10 آذار / مارس من العام 1999 في بالتيمور بالولايات المتحدة الأميركية، قبل انتهاء بناء متحفه الذي سيتم في العام 2002. وقد تميز يوم وفاته بإضراب عام قاده الهنود الأصليون وقطاعات أخرى من البلاد، على اعتبار أن وفاته هي بمثابة خسارة فادحة لدولة الإكوادور.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها