الجمعة 2024/03/22

آخر تحديث: 13:27 (بيروت)

الفوتوغرافي بوريس سميلوف...الصورة السوفياتية المُهرّبة إلى "معارض الشقق"

الجمعة 2024/03/22
الفوتوغرافي بوريس سميلوف...الصورة السوفياتية المُهرّبة إلى "معارض الشقق"
increase حجم الخط decrease
يُخيل إلي، إذا ما نبشت عميقاً في بعض الصفحات التي حفظتها الذاكرة، أنني رأيت أعمالاً فوتوغرافية للمصوّر الفوتوغرافي، بوريس إيفانوفيتش سميلوف، في زمن البيريسترويكا، أواخر ثمانينات القرن الماضي، خلال الفترة التي قضيتها في مدينة لينينغراد في روسيا (الإتحاد السوفياتي). وذلك في صالة صغيرة التي في المدينة، مخصصة لعرض الصور الفوتوغرافية. تمحورت تلك الصور حول موضوعين: المشاهد المدينية والطبيعة الصامتة. بعضها يبقى في الذاكرة، وهنا تكتسب كلمة صور بُعداً حقيقياً ومادياً، وليس مجازياً أو شبحياً.



لا شك في أن بوريس إيفانوفيتش سميلوف (1951- 1998) هو أحد مؤسسي التصوير الفوتوغرافي السوفياتي غير الرسمي في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وكان أشبه بأسطورة في مدرسة سانت بطرسبرغ للتصوير الفوتوغرافي، إذ حظي بإعجاب كل من له علاقة بفن "الرسم بالضوء"، وصاحب إسم معروف لدى المصورين، وهواة جمع الصور الفوتوغرافية، ونقاد التصوير الفوتوغرافي ومؤرخيه. كما يستحيل على المصورين المعاصرين في سانت بطرسبرغ تجنب تأثيره، والمرور جانباً حيال ما أنجزه. فالصور التي التقطها لسانت بطرسبرغ ليست فقط فوتوغرافيا رائعة في حد ذاتها، لكنها بكل بساطة الصور الأكثر تعبيرًا عن المدينة التي تم التقاطها في القرن الماضي.



ارتبط العمل الإبداعي لبوريس سميلوف ارتباطًا وثيقًا بالمدينة، وهو مخصص لها، ويتحدد من خلالها. وهو، في الوقت نفسه، يقترب من العالمية وتقف أعماله إلى جانب أهم منجزات التصوير الفوتوغرافي العالمي. كما كان له تأثير كبير في معاصريه من ممثلي ذاك الفرع من الفن السوفياتي الذي لم يمتثل للقواعد غير المكتوبة، أو ما إتُفق على تسميته " فن تحت الأرض"، ويمكن القول أن لديه الكثير من الأتباع، أي ممن تأثروا به في المدرسة الحديثة للتصوير الفوتوغرافي في سانت بطرسبرغ.

ولد بوريس سميلوف في 13 آذار/مارس 1951 ، في لينينغراد. عاش طوال حياته تقريبًا في جزيرة فاسيليفسكي، وهي التي تشكّل جزءاً من المدينة وتقع في الجزء الغربي منها (هي نفسها الجزيرة التي كانت مسرحاً لبعض روايات فيودر دوستويفسكي، وخصوصاً "الجريمة والعقاب"). بدأ سميلوف الرسم حين كان طفلاً، ثم درس الرياضيات. أما اهتمامه بالتصوير الفوتوغرافي، فقد ظهر في سن العاشرة، فاتجه إلى دراسة التصوير في "قصر الرواد" (مؤسسة رسمية ترعى هوايات صغار السن)، تحت إشراف رئيس استوديو التصوير، بوريس إيفيموفيتش (أبرام خايموفيتش) ريتوف، وقد حصل على جوائز عديدة في مسابقات الأطفال، ثم شرع في التقاط صور تحمل بُعداً إحترافياً حين بلغ السابعة عشرة.



وفي العام 1968، التقى بوريس كودرياكوف، في نادي الصور في "قصر الثقافة"، وهو الذي قدّمه إلى دائرة كونستانتين كوزمينسكي. خلال هذه الفترة، كان مفتونًا ببطرسبورغ دوستويفسكي، وبناء على طلب كوزمينسكي، التقط صوراً للفنانين والكتّاب غير الرسميين.

بعدما درس في كلية الصحافة لمدة ثلاث سنوات، استقال سميلوف، في العام 1973، من دار النشر التي حملت إسم "فنان جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية"، حيث تم استبداله كمصور فوتوغرافي، بالمصوّرة أولغا كورسونوفا. وفي تلك الفترة إنصرف إلى تصوير مشاهد المدينة القديمة، وبعض المناظر الطبيعية، إضافة إلى الطبيعة الصامتة، مستعيناً بآلتي تصوير امتلكهما: Leica وRolleiflex. ثم شارك، في العام 1974، في أول معرض مستقل للتصوير الفوتوغرافي، أطلقت عليه حينذاك تسمية "تحت المظلة"، وذلك في شقة كونستانتين كوزمينسكي، حيث قدّم 34 صورة فوتوغرافية، توزّعت بين مناظر طبيعية، بورتريهات، وطبيعة جامدة. لكن المعرض تم إغلاقه في اليوم التالي، واندلعت فضيحة في الأوساط الفنية، واعتُبر سميلوف مصوّراً غير مرغوب فيه وفي أعماله من قبل السلطات، ما جعل مشاركته إثر ذلك في المعارض الرسمية أقرب إلى الإستحالة.

هكذا، وحتى حلول زمن البيريسترويكا، لم يشارك المصوّر سوى في "معارض الشقق" غير القانونية، التي كانت تُقام في شقق سكنية، أو في محترفات صغيرة. لكنه، في المقابل، حصل على الميدالية الذهبية بعد عرض مجموعته في الصالون الحادي عشر لفنون التصوير الفوتوغرافي في بوخارست. أمّا خلال مرحلة البيريسترويكا، فقد بدأ سميلوف بعرض أعماله بشكل مكثف، وقد أقيمت معارض له في روسيا وخارجها، في دول مثل بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وفنلندا والنروج وغيرها. وفي العام 1991، زار واشنطن، حيث شارك في معرض "تغيير الواقع".

ويتساءل البعض عن السبب خلف إدراج أعمال سميلوف ضمن خانة الفن غير الرسمي، رغم احتوائها ما من شأنه أن يتعارض مع السياسة الرسمية في شكل استفزازي.

والحقيقة أن هذه الصور عكست، بموضوعية لافتة، الكثير من مظاهر الحياة الخفية في مدينة سانت بطرسبورغ، وذلك من دون إضافات أو تحوير. لقد كان في استطاعة بوريس سميلوف أن يلتقط صوراً لمهرجانات وأعياد شعبية، أو لعمال يكدحون في مصنع، وفلاحين يعالجون الأرض، كما فعل سواه من المصوّرين (من دون نبخس قيمة صور من هذا النوع، فقد كانت ذات قيمة تقنية عالية). لكنه أراد أن يصوّر مشاهد أخرى.

في صور سميلوف لا نرى بشراً كثيرين، ولا تحتوي، ربما، على عناصر كثيرة. لكنها ترصد الأشياء بعين محترفة وقادرة على الرؤية الحادة للواقع. وفي حين يلعب الضوء، والظل بطبيعة الحال، دوراً واضحاً في ما قام به، إضافة إلى عناصر أخرى، فإننا نرى بعض نقاط التشابه بين نتاجه الفوتوغرافي والنتاج التشكيلي للفنان الأميركي الشهير إدوارد هوبر، وذلك في أكثر من موقع.

تجمّد سميلوف حتى الموت، ليلة 18 كانون الثاني/يناير 1998 في جزيرة فاسيليفسكي بسانت بطرسبورغ. ولم تُعرف الأسباب التي دفعته إلى الخروج من منزله بلا ملابس شتوية، في ليل المدينة الشتوي ذي الصقيع الذي لا يرحم. ودُفن يوم 24 كانون الثاني، في مقبرة سمولينسك الأرثوذكسية، ولم يكن له من العمر سوى 47 عاماً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها