لكن بالرغم ممّا توحي به ألوان رويدا من تنافر وتصادم، وما يتبدّى في خطوطها من إيقاعات مضطربة ومتضاربة، نجد أن اللوحة عندها لا تلبث أن تتّخذ سياقاً آخر، منساباً نحو هدوء وصفاء في أعلى اللوحة، في سمائها، حيث تتّخذ الخطوط منحًى ذا إيقاع أكثر انسجاماً، وتتحوّل الألوان مشرّقة وأكثر هدوءاً. أهو الخروج من الجحيم، والخلاص المرجو من ثورة النفوس والألوان؟ أم تراه خروج المعدن الثمين من أتون الذوبان والانصهار مكتسباً صفاءه وصلابته. إنه شيء من هذا كلّه معاً، نقرأه في توزّع لوحاتها، المكتملة أو المجزّأة، حول لوحة ذات مدى واسع، تتوسّط جناحها، لفتاة الثورة بكامل وجودها، حاملة العلم اللبناني مع إشارة نصر خجولة وواثقة بإصبعيها الملوّنتين بألوان الدم والعلم اللبنانيّ. إنها مرحلة الاكتمال أو التمام، كأنّما أرادت بذلك تأكيد نجاح الثورة، أو تأكيد استمراريّتها، وهي بذلك انتقلت من التأثير التعبيريّ الشكليّ إلى السرديّة المقصودة لقصّة قضيّة أرادت إيصالها.
هذا الهدوء النهائيّ، في فضاء لوحات رويدا، يسلّم المشاهد إلى لوحات الشقيقة ريم الرافعي فتّال التي تطالعه بجوّ مختلف كلّياً، لكنْ الفنّانتين أرادتا أن تجعلاه استكمالاً أو انعكاساً ولو من بعيد للهدوء والصفاء المستجدّيْن في لوحات رويدا الناريّة.
طبيعة جامدة... ناطقة
فبعكس ما عند رويدا، تطالعنا لوحات الشقيقة ريم الرافعيّ فتّال بالطبيعة الجامدة (nature morte) أو ما أفضل تسميته "الجماد الحيّ أو الناطق"، وهي تدور حول تيمة واحدة، "زهور في مزهريّاتها". واختيار هذا الموضوع أضفى على لوحاتها جوّاً من الهدوء والإطمئنان و"الرواق"، فبدت لنا الأشياء الجامدة حيّة بصورتها المسالمة الداعية إلى الراحة والاستكانة والاستسلام لمتعة مشهديّة جماليّة، تكسر حدة النار الملتهبة في لوحات رويدا.
لقد لفت الحضور في لوحات ريم هذه الخلفية السوداويّة المتمثّلة في اختيار الألوان الترابيّة أو الرمادية العابقة، التي تقارب السواد المطبِق، ما يوحي بجوّ من التشاؤم. لكن سرعان ما تضيء الزهور فضاء اللوحة في تناقض صارخ مع عتمتها، فتتألق الأزهار في ألوانها البيضاء أو الحمراء الخفيفة أو الصفراء الفاتحة أو القرميديّة اللافتة او الليلكية الفرحة... إنّه الأمل الطالع من دخان النار وظلمة الجحيم، المضيء في زمن الأزمات. لوحات ريم الرافعي فتّال في هذا المعرض ذات ألوان هادئة ودافئة، تتهادى إلى واجهة اللوحة، أو وسطها، من مساحات فسيحة بعيدة مترامية مطمئنّة، مفتوحة على الأبعد، على الغموض والالتباس، كما على الاحلام، أحلام اليقظة والنوم معاً. وتتمثّل جماليتها ومغازيها في لعبة الظلال والأضواء المتناقضة بألوانها والمتدرّجة من صقيع العتمة إلى ألق اللون الناضر والمبهر والحافل بالأمل.
تباين وتلاقٍ
وتجلّى هذا التباين- التلاقي، في أحجام اللوحات، فلوحات ريم العشرون هي من القياس الوسط كلها، بما يؤكّد الهدوء والاستقرار، فيما تراوحت لوحات رويدا ما بين الوسط والكبيرة الممتدّة، التي تمنح الفنانة، بحسب قولها، مساحات أوسع وأرحب، وحريّة أكبر للتعبير عن هواجسها. فرويدا تعتبر نفسها، في معرضها هذا، رسّامةَ قضيّة، تعبر عن حال مجتمع ووطن، تعيش ألمه وأرقه واحتراقه وتعبّر عنه بشكلٍ رمزيّ. ففي فنّها مزيج من التعبيريّة والرمزية، على مساحات من التجريد والبعد السورياليّ. وهي في ذلك هادفة وملتزمة كما يتبدّى من الحالات النفسيّة التي عبّرت عنها. وقد قاربت في نواحٍ عديدة المدرسة الوحشية (ماتيس)، إن من حيث الزخرفة والألوان الغريبة الصارخة، وإن من حيث التلاعب بالأشكال والأحجام والنسب وزوايا النظر (perspective). كما أنّ في أعمالها شيئاً من فنّ الشوارع، المعبّر عن نقمة وثورة، وليس مستبعداً أن نشاهد لوحاتها جداريّات في شوارع المدينة، طرابلس أو بيروت وغيرهما. وهي في كلّ ذلك تعتبر فنّها من تيار ما بعد الحداثة في كسره الأنماط والحدود الفاصلة بين الأنواع.
أما ريم فقد انحصرت أعمالها في الحجم الوسط، "الستاندر" إذا جاز التعبير، واكتفت في لوحاتها العشرين بالوظيفة الواقعيّة الانطباعيّة التي عبّرت فيها صراحة وببساطة صادقة عن أحاسيسها وجماليّاتها. نحن معها أمام اللوحة الكلاسيكيّة بمواصفاتها، المعبّرة بألوانها وخطوطها وإيقاعاتها المتناغمة والمتناسقة حيناً، والمتناقضة المتعارضة أحياناً أخرى، في لعبة الضوء والظلمة. وإن كان في ذلك ما يجعل الجمالية فنّية خالصة مقصودة بحدّ ذاتها، كما في نظرية الفنّ للفنّ، إلا أنّها توخّت من خلال ذلك محاربة البشاعة بالجمال من أجل ترهيف الذوق وترقية الإنسان، وتلك في رأيي مهمّة الفنّ الأساسيّة الأولى. وهي في ذلك شكّلت كما رأينا امتداداً متواصلاً في ناحية ما مع أعمال رويدا الهادفة.
جماليّات الحبّ والأمل
نحن إذن بين جماليتَيْن، الأولى مطمئنّة وهادئة مع ريم، والثانية فائرة وهادفة مع رويدا. وفي كلتا الحالتين نحن أمام حبّ ذي وجه خاص بكلتا الفنّانتين، حبّ الوطن والبلد وناسهما، والتعبير عن مآسيهم، مع الانفتاح على حالات مشرقة (مع رويدا)، وحبّ الجمال والفنّ ونشر إشعاعهما على الناس لتنقية النفوس من شوائبها وزرع الحسّ الجمالي فيها، وفي كلتا الحالتين نوافذ مشرّعة على الأمل الذي كثيراً ما يحتاجه هذا الوطن.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها