يكتسي الاحتفاء بذكرى رحيل سيد درويش هذه السنة بقدر كبير من الاهتمام، فهذه هي مئوية رحيل فنان الشعب الذي غادر دنيانا في ظروف غامضة وملتبسة في 15 أيلول/ سبتمبر 1923 وقتما كان المصريون جميعاً يستعدون لاستقبال زعيمهم سعد زغلول، العائد من المنفى بنشيد حماسي نظم كلماته ووضع موسيقاه سيد درويش نفسه عنوانه "مصرنا وطننا سعدنا أملنا"، لكن الأقدار لم تمهله ليكون مع الجموع في استقبال الرجل الذي لحن له خصيصاً الأغنية الشعبية الشهيرة "يا بلح زغلول، يا حليوة يا بلح" على أثر تعنت الاستعمار الإنكليزي في منع الشارع المصري من ترداد اسم سعد زغلول الذي قاد ثورة شعبية عارمة حتى من منفاه.
وفي خضم الاحتفال بمئوية الرجل الذي نقل الموسيقى العربية من أسر الصنعة العثمانية إلى آفاق القرن العشرين الأكثر رحابة وقدرة على التعبير، كانت كل الملفات المتعلقة به وبتاريخه وبأثره الذي تركه مشرعة على مصاريعها، ومن بينها ملف علاقته الشائكة بتلميذه الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي عاصره في سنواته الأخيرة وأكمل بعده تلحين أوبريت "كليوبترا ومارك أنطونيو" لفرقة منيرة المهدية. ولست هنا بصدد رصد ما دأب عليه عبد الوهاب من مدح سيد درويش في العلن أمام الجميع وعبر وسائل الإعلام، ثم التقليل من دوره وأثره في جلساته الخاصة، بل والإيعاز للآخرين بخوض حرب بالوكالة ضد درويش على النحو الذي رأيناه في معركة عبد الحليم حافظ المفتعلة ضد فنان الشعب العام 1960، وهي عادة عبد الوهاب على كل حال الذي نادراً ما تجده يخوض معركة واضحة بنفسه، وإنما يترك لأصدقائه ومقربيه القيام عنه بهذه المهمة. لكني أود التوقف أمام دور عبد الوهاب في إعادة توزيع النشيد الوطني لمصر "بلادي بلادي" الذي كان سيد درويش قد لحنه في ذروة أحداث ثورة 1919.
فحتى معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في العام 1978 كان نشيد "بلادي"، مجرد أغنية حماسية يتم استدعاؤها تلقائياً في طابور الصباح المدرسي أو في الاحتفالات الوطنية العامة، فيما كان نشيد "والله زمان يا سلاحي" الذي نظمه صلاح جاهين ولحنه كمال الطويل كي تغنيه أم كلثوم أثناء حرب السويس سنة 1956 أو ما يعرف في مصر بالعدوان الثلاثي، هو النشيد والسلام الوطني للجمهورية العربية المتحدة التي كانت ضمت سوريا ومصر بين العامين 1958 و1961.
وبقي الحال على ما هو عليه حتى بعد انفصال الدولتين، إلى أن أبرم أنور السادات معاهدته مع إسرائيل، فأصبحت وزارة الحربية هي وزارة الدفاع. كذلك ارتأى أنه لم يعد من المناسب أن يغني المصريون في نشيدهم القومي وقت السلام: "والله زمان يا سلاحي، اشتقت لك فى كفاحي، إنده وقول أنا صاحي، يا حرب ولا زمان"، فكلف السادات محمد عبد الوهاب، الاسم الأكبر في عالم الموسيقي العربية بتوزيع نشيد "بلادي بلادي" الذي وضعه سيد درويش قبل ستين عاماً من هذا التاريخ، كي يكون نشيداً وسلاماً وطنياً لمصر في عهدها الجديد، وأنعم عليه برتبة اللواء الفخرية كي يقود عبد الوهاب اوركسترا الموسيقى العسكرية في المرة الأولى التي عُزف فيها نشيد السلام الجديد.
وجرى الأمر وفق الترتيبات المطلوبة، وفي العام 1990 قبل رحيل عبد الوهاب بسنة جمعني لقاء بعازف الأكورديون في الفرقة الماسية مختار السيد، فإذا به يسمعني شيئاً لم أكن أتوقعه: كانت "بروفة" توزيع النشيد الوطني في هيئته الجديدة، وفيها يفعل مختار السيد كل شيء كأنه القائد، رغم وجود عبد الوهاب وبقية أعضاء الفرقة الماسية، مؤكداً لي أنه الموزع الحقيقي للسلام الوطني الذي يحمل اسم عبد الوهاب. ولما سألته لماذا رضي بذلك ولماذا يقول لي هذه الحقيقة الآن؟ أجابني بأن عبد الوهاب أستاذه، وأنه اعتاد مع غيره على القيام بتوزيع أعمال عبد الوهاب الذي لا يجيد هذه المهمة، وأنه تواعد مع الموسيقار الكبير على كتمان الأمر، لكنه يشعر بالحسرة وهو يرى سلام بلده الوطني الذي قام بتوزيعه يحمل توقيع شخص آخر حتى لو كان عبد الوهاب. وإزاء ما سمعت، استأذنتُ مختار السيد في نشر هذه الحقيقة، فقال لي: لك هذا، لكن بعد رحيل عبد الوهاب، إذا كنا لا نزال على قيد الحياة. ورحل عبد الوهاب بعد هذه الواقعة بعام، وقمت بالفعل بالإفصاح عن هذا السر عبر أحد البرامج التلفزيونية، ويومها قامت الدنيا ولم تقعد.
غضب مني الموسيقار أحمد فؤاد حسن قائد الفرقة الماسية، ولام مختار السيد لوماً شديداً، بل وهدّد بنشر تكذيب في الصحف باعتباره شاهداً على الواقعة. فذكّرته بتمثيلية بروفة أغنية "من غير ليه" التي شارك فيها هو و"الماسية" مع عبد الوهاب أمام كاميرا برنامج "حديث المدينة" الذي كان يقدمه مفيد فوزي، وذلك رغم أن "من غير ليه" هي في أصلها بروفة حفظ بين عبد الوهاب وعبد الحليم منذ منتصف السبعينيات وتمت معالجتها صوتياً حتى يبدو الموسيقار الكبير وقد تغنى بها لتوه أواخر الثمانينيات. فآثر قائد "الماسية" التوقف عند هذه النقطة خصوصاً أنه كان قد دخل في أزمته الصحية التي أودت به إلى الوفاة في العام التالي مباشرة 1993.
المدهش أن نشيد "بلادي بلادي" المأخوذ من بداية خطبة حماسية كان قد ألقاها الزعيم المصري مصطفي كامل واستقر في وجداننا أنه من تأليف الشيخ يونس القاضي، هناك من يردد أنه ليس من تأليفه، وإنما من نَظم سيد درويش نفسه، بل إن عبد الوهاب ذاته يقول لمحمد أحمد عيسي في كتابه "رحلة غنائية يرويها محمد عبد الوهاب" الصادر سنة 1975 عن دار الشعب للنشر والتوزيع، ما نصه: "وقد ألف المرحوم بديع خيري الكثير من الأناشيد الوطنيّة لسيد درويش في مقدمتها نشيد بلادي بلادي ونشيد قوم يا مصري مصر دايما بتناديك".
وهكذا نسب عبد الوهاب كلمات النشيد الوطني إلى بديع خيري على غير الحقيقة، تماماً مثلما نسب لنفسه إعادة توزيع العمل الذي لحنه سيد درويش فيما أعاد مختار السيد توزيعه نهاية السبعينيات.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها