الجمعة 2023/08/25

آخر تحديث: 14:04 (بيروت)

طفرة الذكاء الاصطناعي الغنائي: بوس الواوا

الجمعة 2023/08/25
طفرة الذكاء الاصطناعي الغنائي: بوس الواوا
increase حجم الخط decrease
تبدّلت قوانين اللعبة إذاً، وعبر بنا الذكاء الاصطناعيّ نفق الحداثة الظليم، مُكرَهين لا مدهوشين، ضعفاء، لا نملك حتّى حقّ الالتفات إلى الوراء حنيناً إلى زمنٍ كان فيه الإبداع العلامة الفارقة التي تجعل من الإنسيّ إنسيّاً. فمنذ أطلق الملحّن المصري عمرو مصطفى تجربته التي أعاد فيها إحياء صوت أم كلثوم افتراضيّاً، في عملٍ بعنوان "افتكرك أيه"، انعتق مارد الذكاء الاصطناعيّ من قمقمه، فهاج وفتك بتراثنا وما تبقّى من ذاكرتنا الموسيقيّة من دون أن نملك ما يكفي من الأخلاقيّات والضوابط الفنيّة القانونيّة لتحجيمه.

هذه التجربة التي لم يمض عليها سوى بضعة أشهرٍ، مهّدت لسيلٍ من الإنتاجات الموسيقيّة التي تقوم على استدعاء أصوات مطربين افتراضيّين هم في جلّ الأحيان نسخاً صوتيّةً افتراضيّةً لعمالقة الغناء العربيّ، كأم كلثوم وفيروز، وعبد الحليم، وعبد الوهاب، وغيرهم. وقد شاعت هذه الإنتاجات كالنار في الهشيم بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعيّ، لا سيما "تيك توك" الذي ينفرد عن سواه بمقوّماتٍ تفاعليّةٍ بالغة السرعة جعلت منه بيئةً موائمةً لهذه الأعمال. هذا الواقع أحدث تشوّشاً بين العاملين في مجال الفنون الإبداعيّة، خصوصاً أنّ غالبيّة الأغاني التي اندرجت في إطاره، جاءت ساخرةً، لا تعطي اعتباراً لا لتاريخ ولا لجغرافيا ولا للغة والأخطر من هذا هو أنّها تشترط معادلةً جديدةً مفادها: "القانون لا يحمي المبدعين"، حتّى ولو كان المبدع كوكباً للشرق أو جاراً للقمر أو عندليباً أسمر دوّخ بحسّه جيله وأجيالاً بعده. ولعلّ "بوس الواو" بصوت عبد الحليم هي مثالٌ صارخٌ على ازدراء البعض لذاكرتنا الموسيقيّة والانفعاليّة، وهو يستدعي تدخلاً سريعاً من قبل الهيئات الفاعلة في المجال الثقافي العربّي عموماً.


لنقاشنا هنا زوايا عديدة، وهي بمجملها لا تشي بالكثير من الإيجابيّة. فعلى الصعيد التقنيّ مثلاً، لم يعد استحضار خامة صوت أحدهم من دون حضوره أو إعلامه (أو ورثته) أمراً معقدّاً ولا مكلفاً. فالخوارزميّات الرقميّة بإمكانها أن تتعامل مع تفاصيل الصوت البشري بدقة مفزعة، وهي لم تعد مُسخّرة لتحسين أدائه والتستّر على عيوبه فقط، بل تطوّرت حتّى اكتسبت المقدرة على إعادة إنتاج خامته بصورةٍ سريعةٍ وعلى هيئة موجاتٍ صوتيّة رقميّةٍ. وهذه الخاصيّة لم تعد حكراً على قلّةٍ تملك قدراتٍ إنتاجيّةً مهولةً، بل أتيحت لأيّ راغبٍ في التبحٍّر في مجال إنتاج الموسيقى الإلكترونيّة، سواء كان ملحناً مشهوراً أم مراهقاً يلهو على "تيك توك" ويلهث سعياً وراء المزيد من المشاهدات والنقود.


من جهةٍ أخرى، وفي ما يتعلّق بالإنتاج والتداول، توحي المؤشرات بأنّنا أمام حقبةٍ جديدةٍ ما زالت ضبابيّة المعالم، لكّن البيّن فيها هو أن "الصوت الافتراضيّ" سيفرض إعادة هيكلةٍ لعمليّة إنتاج السلع الإبداعيّة وتوزيعها وتلقيها وحصد أرباحها. وقد أعرب الكثير من الفنانين في هذا الإطار عن رغبتهم في استغلال تقنيّات الذكاء الاصطناعي في مجال التسويق، حيث صار بإمكان الملحن أن يسجّل لحنه مستعيناً بغناءٍ افتراضيٍّ ليقوم في ما بعد ببيع حقوق آدائه للمغنّي. وهذا الرأي نال استحسان البعض، ومعارضةً عنيفةً من البعض الآخر.

هذا ولا يمكن تجاهل العائقة القانونيّة المحدثة التي تطاول ملكيّة الصوت البشري نفسه، والشروط التي تسمح بإعادة إنتاجه واستدعائه بطابعٍ فنيٍّ محنّطٍ. فإذا سلّمنا أنّ للصوت البشريّ حقوقاً وملكيّة، سيبقى جدل تحديد الجهة التي تملك هذه الحقوق عقيماً في ظلّ غياب قوانين مرنةً مخصّصةً للتعامل مع هذا الواقع. والجدير بالذكر هنا أن شركات إنتاج كبرى بدأت تدرس بالفعل التشريعات التي ترتبط بنقاشنا، لكنّ الحديث عن الحلول ما زال مبكراً.

أما الشقّ الفكريّ فهو الأشد جسامةً وتأثيراً بطبيعة الحال، باعتبار أنّ الهويّات الفنيّة سُلّعت ولم تعد ذات قيمةٍ، حيث يستطيع أيّ كان أن يغيّر مؤدي الأغنيّة على هواه من دون أن تلوّح له يد مهددةً بقانون. هذه التطوّرات تنذر بتراجعٍ عامٍ في مجال التنوّع الموسيقيّ وربما سنشهد عما قريبٍ تراجعاً في دور المطرب، الذي سيفقد مكانته والهالة السحريّة التي تحيط به. وهذا سيبدأ بالغناء ثم سيفتك ببقيّة الفريق الإبداعيّ الذي ينتج العمل الغنائيّ من شعراء وملحنين وموزّعين. وربّما سنحتفي عن قريب بأغانٍ غير موقعة من شاعر أو ملحن أو مطرب، ربّما سيكون إحساسنا بها هو التدخل البشري الوحيد في العمل.

المشهديّة هنا همّشت جدالات فكريّة موسيقيّة شائعة، كالعولمة الموسيقيّة وطمس الثقافات، وأعادت في المقابل آراء منظّري المدرسة النقديّة حول التسليع الثقافي والموسيقي إلى الواجهة، خصوصاً أنّنا بتنا نتعامل معه بصورةٍ أكثر وقاحةً وعمقا. فهو لا يقتصر اليوم على تسطيح القيم الفنيّة العالية، بل يتعامل مع العمل بكليّته كسلعةٍ تصنّع بأقل تدخلٍ بشريٍّ ممكنٍ. وظاهرة التسليع هذه، تبدو خارجةً على السيطرة وهي لا تحتمل التعاطف والتطبيل، ولا ترقى حتّى هذه اللحظة لصيغةٍ تشجّع على التعاطي الإيجابيّ، طالما أنها جعلت الأصوات التي طَبعت ذواتنا، مباحةً أمام التلاعب والتدنيس، وكأنّها لم تكن سهماً سحريّاً أيقظ ذهولنا يوماً.

كل السيناريوهات المتوّقعة خطيرة، والأجدر بنا أن نراقص المارد ونروّضه، عوضاً عن محاولة حشره في قمقمٍ لم يعد يستوعبه بعدما نما وصار قادراً على ابتلاع ذاكرتنا وإبداعنا، والقمم أيضاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها