الخميس 2023/08/24

آخر تحديث: 14:22 (بيروت)

"القبلة الأبديّة" لفوزي ذبيان...الضاحية الجنوبية والعوالم خارجها

الخميس 2023/08/24
"القبلة الأبديّة" لفوزي ذبيان...الضاحية الجنوبية والعوالم خارجها
فوزي ذبيان
increase حجم الخط decrease
شوهِدت أمس في منطقة الهرمل 25 شاحنة محمّلة بالمازوت تدخل برّاً عبر الأراضي السوريّة إلى لبنان وبمواكبة حزبيّة (جريدة النهار-الخميس 17 آب 2023).

يطرق فوزي ذبيان، في روايته الصادرة مؤخَّراً، القُبْلة الأبديّة[1]، أبواباً كثيرة نفسيّة واجتماعيّة وإنسانيّة، تنفتح له كلّياً او جزئيّاً ليتبدى له ما تُخفيه وراءها. إلا أنّ الباب الأهمّ الذي يطرقه هو باب الضاحية الجنوبيّة معقل حزب الله الحصين، الذي غالباً ما يبقى موصدّاً دون أي طارق، فيدلف عبره إلى امتدادات الضاحية الطبيعيّة، وهي الجبهات التي تخاض عليها المعارك، والمهمات التي توكل إلى المقاومين، وانعكاساتها السلبيّة على نفسيّات وشخصيات بعضهم، بالرغم من تمكينهم وتحصينهم بالتربية الدينيّة وصولاً بهم إلى الاقتناع بطلب الشهادة، وبالتدريبات القاسية والصارمة المدعومة عادة من الأهل. وهي معلومات وحالات لم تعد، ولم تكن في الأساس خافية على أحد، وكثيرة هي التقارير الإخبارية والوثائقيّات والمقابلات التي أُجريت وسلّطت الأضواء على هذه الجوانب المهمة في سياسة حزب الله "التنسيبيّة" والتي غالباً ما كانت موضوع فخر لقادته ومُعتنقيه. فليس ذبيان إذن أوّل من تناول هذا الموضوع الحسّاس بكلّ جوانبه.

في المصحّ
مسرح الرواية الأساسيّ هو مصحّ المجانين في العصفوريّة حيث يخضع للعلاج حسين "القنّاص" البارع في صفوف المقاومة منذ جنّده أبوه في صفوفها "مشروعَ شهيد" كما قال يوم راح يقدّمه إلى ذاك الشيخ القائد وهو في الثالثة عشرة من عمره. ومع حسين مجموعة من "الإخوة" رفاقه في القتال، يسمّيهم بأسمائهم وألقابهم، وعلى لسانه نعرف قصّة كل واحد منهم وسبب دخوله المصحّة. ولكلّ منهم، كما عند كل المرضى المختلّين، شكل مختلف من النوبات العصبيّة التي غالباً ما كانت تشتدّ عندما تعلو على شاشة التلفزيون خطابات التغنّي بالنصر والاستشهادات إذ تعلو أصواتهم تباعاً وكلّ منهم يصرخ بأعلى صوته في وجه الخطيب على  الشاشة (حتى ولو كان السيّد) مجاهراً بما يعانيه من انعكاسات حروب المقاومة وخفاياها عليهم.

الأسلوب شكلٌ تعبيريّ عن المعاناة
يوكل ذبيان دور الراوي إلى بطله حسين، متعمِّداً أن يكون السَّرد عبر ضميرين له، ضمير المتكلّم، الأنا، وضمير الغائب، هو، إذ نجد الـ"أنا" يخبر عن نفسه لينتقل فجأة للكلام على الـ"هُوَ" (حسين) بأشكال متناوبة ومتداخلة بقوة، ومتراكبة أحياناً في مواضع متقاربة جدّاً ضمن الفقرة الواحدة. وبذلك أمكن الكاتب أن يُحسّس القارئ بشدّة الاختلال النفسيّ عند الراوي، والاضطراب الذي ينتج منه، وكذلك بالانفصام الحادّ في الشخصية التي يبدو وكأنّها أحياناً لا تتعرّف بنفسها أو تغيب عنها كلّياً.

تشتدّ نوبات حسين عليه عندما تتكاثر وتتكثّف الصور المزعجة في رأسه ويجد نفسه عاجزاً عن إزاحتها ومقاومتها. وهو في استعادته فترات هدوئه يستعيد بعضاً من تلك الصور التي تلحّ عليه في ذاكرته ويروي ما ترسَّخ منها في ذهنه، من دون أن يدري، ولا أن يكتشف القارئ أياً من هذه الصور هي التي تسبّب نوباته وجنونه. وهو ما بين الوعي واللاوعي يعترف بجنونه ويسلّم نفسه للأطباء والمعالجين على أمل أن يشفى، على عكس بعض الشخصيّات الأخرى، التي لا تعترف بجنونها فتُعتَبر مريضة وتبقى في المصحّة، على غرار بنزاكسول مثلاً، المقاتل الذي اغتنى من التجارة والتهريب لكنّه تعرّض لعملية احتيال خسر معها كامل ما جناه، وهو ما أدّى به إلى الجنون.

في النهاية يقرّر الأطباء أنّ حسين شُفي، فيودّع الجميع ويغادر المصحة إلى الضاحية الجنوبيّة، حيث يعيش صراعاً داخلياً بين التأقلم معها مجدّداً وبين الانعزال عن ناسها، وحيث يعيش وسط صور الشهداء والشعارات والندبيّات في كلّ مكان. وتطالعه في أحد المقاهي صورة قائده المحبوب، الحاج عباس، بين صور الشهداء. كان الحاج عباس قد عُزل من قيادة المركز الحربيّ، ونُقِل إلى مكانٍ آخر، بعد اعتراضه على أمرٍ غامض لم يفهم حسين تماماً ما هو، كل ما سمعه من الحاج عباس هو: "جينا نحمي المقامات وإذا بالمقامات نفط وغاز". ثم وصل خبر استشهاده وأصرّ حسين على مغادرة مركز القتال لحضور جنازته في الضاحية.

بعودته إلى الضاحية اكتشف حسين شيئاً فشيئاً، أو تذكّر ما يمكن أن يكون سبب جنونه (نترك للقارئ متعة مفاجأة معرفته)، إضافة إلى كل العوامل الأخرى التي أودت به إلى هذه الحال مع صحبه، من صور القتلى المشوّهة، وشظف العيش والتشدّد معهم في الانضباط والقتال، واكتشاف المتناقضات في مواقف وسياسة الحزب وقيادة المقاومة (شدّة الاستياء مثلاً وهم يشاهدون مغادرة مقاتلي داعش في الباصات من دون أن يُسمح لهم بأي ردّ فعل).

شفاءٌ نهائيّ
الحدث السعيد الذي وقع له بعودته هو تلقيه اتصالاً من ممرضته المس ميراي، التي أغرم بها في المصح، وتمنّى طويلاً، في جنونه، أن يحظى منها بتلك القبلة الممتعة، وأن يسافر برفقتها للعيش معاً في كندا. وفي لقائه بها في أحد مقاهي الجميزة، ينفتح له معها باب السعادة، شرب ورقص وضحك مجنون، مثل ضحكهما معاً في المصح، ضحك صاخب يملأ الأجواء وصولاً إلى أبواب الضاحية المقفلة دونه، وقبلات قبلات، مثل تلك القبلة الطويلة، الأبدية، التي أخذته بها إلى عالم لطالما تمنّاه.

وفي خضم هذه السعادة، يقع انفجار المرفأ... ربما ترك لنا الكاتب أن نتصوّر ما حدث لحسين، موت أم ولادة جديدة؟ دوّن حسين في مذكّراته: "محظوظ من يختار الوقت المناسب لإطلاق سراح روحه".

"حلّق عالياً بجناحيه الجديدَيْن، حلق عالياً وقد باغته شعور هائل بخفّة لم يعتدها يوماً" (نلفت إلى أنّها صورة تشبه بشكلٍ ما، صورة جبور الدويهيّ في روايته الأخيرة قبل وفاته "سمّ في الهواء").

عالمان وواقعان
تفاصيل كثيرة يمكن التوقّف عندها في رواية فوزي ذبيان هذه، تأخذنا معه إلى أعماق النفس البشريّة وتفاعلاتها، وإلى وقائع مؤلمة وحقائق مزيّفة وأحكام مطلقة وشعارات فارغة وجوّ سوداويّ يفتقر إلى ألوان الحياة البهيجة التي يجدها حسين في النهاية في المقلب الآخر من بيروت، ولِم لا؟ المقالب الأخرى من العوالم التي هي خارج الضاحية الجنوبيّة.

وقد اغتنت الرواية بشخصيّات برع ذبيان في تصوير انفعالاتها وتفاعلاتها، من مجموعة المجانين في المصحّة، الريّس بنزاكسول وحمزة الظل وحمودي الطفل وأبو زهرة، ولكلّ منه قصته وعوارضه الجنونيّة المؤثّرة، إلى شخصيات مؤثِّرة من غير المجانين أو من خارج المصحة، مثل المس ميراي، ووالدة حسين المؤمنة المتزمّتة التي لها دور بالغ في توجيه حياة ابنها الدينيّة- الجهاديّة، والوالد الذي يكنّ له البطل كرهاً دفيناً...

يعمل ذبيان على تصوير مواقف هذه الشخصيّات وتصرّفاتها الطريفة، المضحكة المبكية، وهو ما يبرع فيه، وذلك بغية إثارة الشفقة أكثر منه الإضحاك. ثمّ إنه يستعرض الحالات خارجيّاً بعيداً عن التحليلات النفسية المدَّعية، فيترك للسلوكات وردّات الفعل أن توحي بالمرض العميق أو بطبيعة الاختلال وأسبابه.

الفنّ والإيحاء
وتزخر القبلة الأبدية بالصور الفنّية الجميلة والمعبّرة، وبالآراء المهمّة في علاقة الإنسان بذاته وبالعالم وبالكلمات، وبمواقف جازمة ورافضة للحروب العبثيّة، وبتلك اللفتات الوامضة التي تعكس ولا بدّ ما يتمتع به الكاتب من حسّ الفكاهة، خصوصاً في وصفه تصرّفات المجانين وردود أفعالهم، لكنها تبقى بالتأكيد تلك الفكاهة المرّة ممّا نسمّيه المضحك المبكي.

السياسات التطويعيّة
ومن الواضح أنّ الرواية هي من تلك القصص التي تعالج الحياة في المصحّات العقليّة من زوايا مختلفة، وأشهرها على الإطلاق فيلم المخرج ميلوش فورمان "طيران فوق عش الكوكو" الذي مثّله واشتُهِر فيه جاك نيكلسون، وكذلك تشبه مسرحيّة "فيلم أميركيّ طويل" لزياد الرحباني، وإن كانت المعالجة من زاوية مختلفة.

وفي الرواية إضاءة على طريقة إعداد المواطنين عموماً، والمقاتلين خصوصاً، وتطويعهم وتصنيعهم وقولبتهم، على غرار ما طالعناه في رواية جورج أورْويل"1984"، أو في رواية ألدوس هاكسلي "عالم جديد شجاع". ولا غرو في ذلك طالما أن حزب الله كان وما يزال يتباهى بهذه الطريقة التي عليها قامت دعايته منذ بروزه في ثمانينات القرن الماضي.

القبلة الأبديّة رواية الحرب، وما بعد الحرب... مثل تلك الروايات والأفلام التي لا حصر لها والتي صوّرت انعكاسات وتداعيات الحروب الأميركيّة (أو غيرها)، في فييتنام، ولاحقاً في أفغانستان والعراق التي نشهد كثيراً منها في هذه الأيام، على نفوس الشّباب المقاتلين الذين سيقوا إلى ميادين لم يريدوها، وعاشوا وعايشوا فيها أهوالاً، أو اكتشفوا وقائع وحقائق تناقض كلّياً الشعارات والمُثل التي أُرسِلوا إلى الحرب تحت رايتها، إلى أن انتهت بهم الأمور مختلّين انتحروا أو عاشوا في مصحّات أو ارتكبوا في مجتمعاتهم فظائع موصوفة.

في النهاية رواية القبلة الأبديّة هي رواية ضدّ الحرب، كلّ الحروب، والتي ليست بأيّة حال من الأحوال مرضاةً لله بل غضبٌ منه، وأوّل من يفهم هذه الحقيقة هو من يكتوي بنارها كما نشهد في الرواية عند كلّ أبطالها، وقد اختصر مواقفهم جميعاً قائد المجموعة الحاج عبّاس إذ أسرّ لحسين: "عندما لا يعرف ربّ العالمين ماذا عليه أن يفعل ببعض مخلوقاته من الأشقياء يقوم بإرسالهم إلى حرب ضروس كي يفنوا بعضهم بعضاً".


[1] . ذبيان، فوزي، القبلة الأبديّة، منشورات دار الجمل، الشارقة- بغداد، 2023.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها