الأربعاء 2023/08/02

آخر تحديث: 09:09 (بيروت)

"صورة طائشة" لجان هاشم...أساطير محلّيّة عابرة للأجيال

الأربعاء 2023/08/02
"صورة طائشة" لجان هاشم...أساطير محلّيّة عابرة للأجيال
تتوضّح في رواية هاشم، صورة المقاتل لكن بتعدّد أبعادها.
increase حجم الخط decrease
روايات وأساطير مخيّلة متناقلة من جيل إلى جيل.

"سّوسة سّوداء"... قابعة في مطامر النفس البشريّة الجاهدة في قمعها واحتوائها

دْجُو قارح

 

 

ليس جديدًا على الأدب اللّبناني، نبش الماضي وما يكتنهه من أحداثٍ مأساوية أخذت طابع العنف الشديد في بيئات لا تعرف في جوهرها إلّا بساطة الحياة اليوميّة التّي تفاجئنا أحيانًا كثيرةً بتوليدها على غفلة شخصيّات-أبطالَ سلمٍ وحربٍ.

يبحث الرّوائيّ جان هاشم، في روايته الصادرة حديثاً صورة طائشة[1]، عن قصّة لشخصيّاته البطولية وليس عن حادثة ما لسردها وتفنيدها. فيَحوك حبكته مستندًا على مجموعة متشابكة ومترابطة من الأحداث المأساويّة التي ضربت قبيل الحرب اللّبنانية وخلالها بلدة "مروج السهل". وهذه الأخيرة ترتسم لنا قاعدةً لخلافات وانقسامات عائلية سياسية عميقة، على غرار الكثير من البلدات اللبنانيّة في ذاك الزّمان من القرن الماضي. إلا أنّ هاشم لا يتوقّف في مرحلة زمنية محدّدة، بل إنه يتنقل مع شخصياته المختلفة من حقبة إلى أخرى، عبر تعدّد المواقف والسّرديات، مبيّنًا بذلك تكرار التّاريخ نفسه بصورة شبه واضحة، تضع القارئ تباعًا أمام توقّعات جمّة ومحدِّدة للرّواية ولمصير أبطالها.

وباعتماد صيغة تعددّ الرّواة، اتَّخذت رواية صورة طائشة منحًى آخر، إذ إنّه، وبفضل هذه اللّعبة السّرديّة، استطاع إدخال القارئ في مواجهة مباشرة مع الأحداث والشّخصيات، واضعًا إيّاه أحيانًا في مركز المستمع الحكم والمستشار، وأحيانًا أخرى في مركز المستمع المواسي والمتعاطف. وما يزكّي هذه الميزة، هو اعتماد الكاتب أسلوب الحوار الذّي يستند عليه كلّ راوٍ بدوره لإيصال أفكاره وآرائه ومشاعره وتخيّلاته. تشعر حقيقةً، أنّك في زيارة لتلك الشّخصيات في منزلها، أمامك فنجان قهوة، وتسمَع تباعًا من كلّ منها، في استعادة ذكرى الأحداث، ما يشكّل الخيط الزّمني السّليم لربط الأحداث بعضها ببعض، ووفق منطق السببيّة...

حاول هاشم عدم الوقوع ضحيّة تعدّد المصادر، إذ إنّه يبني رواقه السّرديّ، على وجهة نظر واحدة، خصوصًا عندما يُعنى الأمر بتفاصيل العديد والعديد من الحوادث المأساوية التّي يفضّل أن تبقى روايات، وأحيانًا أساطير محلّيّة، متناقلة من جيلٍ إلى جيل، بصياغة متغايرة مع الظّروف والأسباب والوجهة. وبذلك، لا يبحث فقط عن إنصاف الضّحية، الدّور الذّي يتقاسمه أبطاله وخصومهم بتواتر الأحداث والمواقف، إنّما على إبراز الجانب الإنساني الجيّاش بالمشاعر المبعثرة والمحكوم بالماضي الموروث في اللّاوعي الجماعي، لشخصيّاتٍ يعتبرها محطّ أنظار بفعل تماشيها مع الجوّ الذّي عاشه اللّبنانيون، إثر خروجهم بعد الحرب من دوامات الإقتتال والإجرام العبثيّ والوحشيّ.

وربّما فاجأنا هاشم بإضاءته في روايته هذه على وجهين مهمّين في الحياة اللبنانيّة، بعيدًا عن النّقد الكلاسيكيّ لتلك المرحلة، وما فيه من تعارض مواقف منهما، مزيحاً الستار عن دورهما الفريد المهمّ في المجتمع، في تلك المرحلة، شئنا أم أبينا، وأعني بهما المرأة والإكليروس. وبذلك، يشدّد هاشم سعيه لتسليط الضّوء على الجانب العاطفيّ والذّاتيّ القائم على رفض العنف بشكلٍ قاطع، لكن هذه المرّة، بالانصياع للعقل والمنطق، وللقلب والقِيَم.

ففي إبرازه دور المرأة، طبعها الكاتب بصورتين متكاملتين. لقد أولاها بداية دور العاشقة البريئة، الخارجة عن مألوف الحبّ الطّائش الشبابيّ، ممّا يروّج لحقيقة مشاعرها ووعيها الفريدين. وينتقل معها للنّتيجة الحتميّة لقصّة حبّها الجياشة فيرقّيها استحقاقًا إلى درجة المضحيّة في سبيل حبٍ لم يذق طعم الرّاحة إلّا نادرًا. يصل بعد عناء طويل، واستسلام لظروف وأحكام ذاك الزمن ليعدّها زوجةً لا ترى في زوجها إلّا رفيق دربٍ تحوّل تعلّقها وولعها به إلى وفاء وصبرٍ يفوقان ما عرفته سابقًا ويضعها على خطوط التّماس مع المجهول والموت. وأخيرًا، يرفعها عاليًا ليكلّلها أمًّا، خاسرة كلّ ضماناتها في عيش هانئٍ لتشدّ عزم أولادها الرّازحين تحت أنقاض الخلافات والأحداث الطّويلة. مع هاشم تخضع المرأة لجميع أنواع التّحديات، منها ما يعالجه ويروح فيه إلى خطّ النّهاية، ومنه ما يمرّ على ذكره سريعًا، ليس انتقاصًا من أهمّيته، بل لترك السّرديات والأخبار ضمن دائرة محدّدة، تتخبّط فيما بينها محافظةً على وحدة الموضوع.

أمّا في ما يخصّ الجانب الكنسيّ، أو ما يعرف بالإكليروس، فقد تميّز في صورة طائشة، بالعديد من صوره المعبّرة. فهو لا يتوقّف، مثل رعيلٍ من الأدباء، على الإنتقاد الببغائيّ للسّلطة الكنسيّة، واصفين إيّاها بعبارات ومناهج فكريّة مكرّرة معلّبة لا تدل إلّا على جهل قائلها. بل أنّ جان هاشم بحث عميقًا في جذور ومظاهر تغلغل الكنيسة والحسّ الديني في هذا النوع من المجتمعات الصغرى بصورة عامّة، لتنسحب بعد على الوطن ككلّ. وبذلك، يدخل على فكرة الكهنوت من زاويتين: الأولى في تأسيسها وتحضيرها، والثّانيّة في إطلاق رسالتها الحقيقيّة. وفي التّفاصيل، يدقّق هاشم في عملية الدّعوة الكهنوتيّة، في فصول اكتشافها، وامتحانها والتّعامل معها. يدخل في زواريب الأحاديث المتناقلة في ذلك الزّمان بين الشبان المهتمين بهذا الجانب، ويذكر باقة من الأماكن والأزمنة والمراحل التّي تلعب دورًا مدهشًا في منح هذا البعد رونقَ شغفٍ ورغبةٍ وبراءة. وقد أبرز، إضافة إلى ذلك، دور الإصلاح والإرشاد في صورة الكاهن وتقدّمه على سائر المهام. فهو أحجم عن تفنيد تركيبة السلّطة الكنسيّة وعن مهاجمتها واعتبارها قطبًا خفيًا متلاعباً بالأحداث والتّطورات ومتواطئاً مع الحكم الإقطاعيّ السياسيّ ليبرز في شخصيّة الكهنة قيمة الحكمة، التّي يؤسّسها على منطق المحبّة المخنوق آنذاك من الأيادي المتعطّشة للمزيد والمزيد من الدمار والخراب. ولعلّ جان هاشم أراد أن يحفر بسرديّته هذه مسارًا لجميع ضحايا تلك الأحداث المأساوية بدايةً من رميها العبثيّ وسط دوامة العنف هذه مرورًا بسلسلة الفعل وردات الفعل التّي تُغرق صاحبها تحت ألفِ خيبةٍ وألمٍ وصولًا إلى الميناء الآمن، حيث تجيء التّوبة والغفران نسمةً خفيفةً تنعش الرّوح في أصعب لحظاتها: لحظات انقطاع الرّجاء. ومن هنا، يتبدّى كسر مفهوم "السّوسة السّوداء" الشعبيّ، القابعة في مطامر النفس البشريّة الجاهدة في قمعها واحتوائها، ليُبنى مكانها مفهوم "السّوسة البيضاء" التّي رغم كل الخنق والكبت والخوف الذّي تُمنى به، تعود لتهمس في قلب المرء حبًا دافقًا للرحمة والسلام والمحبة.


كذلك، تتوضّح في رواية هاشم، صورة المقاتل لكن بتعدّد أبعادها. فنرى في مواقف عديدة منها ذاك المحارب في خضمّ العنف والحروب، يحاول أن يحافظ ويدافع عن أهله وعائلته في وجه الهجمات المباغتة التّي لا تفرّق بين ضحيّة وعدو. وتباعًا، تتحوّل هذه الصّورة إلى الزّوج وربّ البيت الذّي يعيش في صراعه المرير بين ماضيه وأحلامه، ساعيًا لتفادي تكرار القدر والتاريخ مع عائلته، يقف حازمًا حاسمًا مبعدًا كلّ المؤثّرات المتغلغلة في صميم أمانهم. في الحقيقة، يصبح ابن صراع، يحيا منه، يفكّر من خلاله، يرى الحاضر والمستقبل من زاويته الخشنة المتعبة. وفي نظر هاشم، تصحّ مقولة "ليس هنالك مقاتل سابق"، إذ إنّه كما حلّت البدلات الرسمية وربطات العنق مكان البدلات العسكرية والبواريد، أخذت الزّبائنيّة والمحسوبيات مكان الثّأر والرّبطيّات. وبذلك يروح هاشم بمقاتله إلى مجتمع ما بعد الحرب، الذّي أعلى من جهة شأن جوقة من زعماء الحرب ورجالهم منفّذي فظائعهم، وأقصى من جهة أخرى أولئك الذّين حاربوا وقاتلوا من أجل كرامتهم ووجودهم من دون مواربةٍ ومحاباة.

في النّهاية، لعلّ هاشم، أحبّ بشدّة أُناس هذه الرّاوية وعالمها فلم يستطع حجب جانبه التّعليميّ فيها. لربّما، وعن غير قصدٍ، بثَّ  فيها نَفَسَه الإيعازيّ لرأب الصدع بين مختلف مكوّنات قصّته الاجتماعيّة، موحياً  بذلك، أحيانًا بطريقة غير مباشرة، وأحيانًا أخرى فاضحًا هذا الصدع من خلال أحد رواته. وهنا يكمن السّؤال: ألا يمكن أن تعكس القصّة بسرديّاتها العديدة والمتداخلة، موقف الكاتب جان هاشم كمتفرّج، كاتمٍ لكلّ الخراب في سرّه، والمنعزل في قلب مجتمعه عن هذه الفوضى الهمجيّة؟

(*)يوقع جان هاشم روايته هذه يوم السبت 5 آب في أوتيل بلمون إهدن.



[1]. جان هاشم، صورة طائشة، دار النهضة العربيّة، بيروت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها