الأحد 2023/05/21

آخر تحديث: 16:14 (بيروت)

عريّ مُقلِق...ازدواجية الحمّام العثماني وتوبيخ "الشباب ذوي الخدود الناعمة"

عريّ مُقلِق...ازدواجية الحمّام العثماني وتوبيخ "الشباب ذوي الخدود الناعمة"
جان جيروم
increase حجم الخط decrease
بتسليطها الضوء على الحمام والعري، ومن خلال دراسة أرشيف المحكمة الشرعية في حلب القرن الثامن عشر، تُبرز المؤلفة إليز سمرجيان، أستاذة تاريخ الشرق الأوسط في Whitman College، المُخجِل والمُضمر في تواريخنا المحلية واليومية، وقد يتبدى أحيانًا، في ثنايا هذه الدراسة، أننا إزاء عوالم ألف ليلة وليلة، بغرائبيتها وسورياليتها، وهي تتحفنا بوصف تفصيلي شيق وتحليل مُتبصر للسياقات الاجتماعية والسياسية والفقهية والتاريخية وللتفاعلات الانسانية المُثقلة، وتُجادل بوطأة التاريخ والنص والغيب والرقيب والهوامات الجنسية على الأجساد حتى في أدق خصوصياتها. 
نُشر المقال في International Journal of Middle Eastern Studies وتحصل على جائزة أفضل مقال لجمعية الدراسات السورية عام 2014. بعد القسم الأول من المقال هنا القسم الثاني..

وفرت الحمامات العامة، بوصفها مساحات لممارسات الترفيه الشعبية، منفذاً اجتماعياً للمرأة العثمانية في حين كانت المقاهي، التي كانت رائجة أيضًا في تلك الفترة، حكراً على الرجال فقط. وبسبب من متطلبات الاحتشام في الشريعة الإسلامية، ازدهر اقتصاد نسائي بالكامل داخل الحمامات العثمانية. إذ قدمت العاملات في الحمامات خدمات بالغة الأهمية للزبائن خلال ساعات عمل النساء ومن ثم كان لمنع النساء من مثل هذا العمل أن يؤثر ليس فقط على دخلهن ولكن أيضًا على جهود الزبائن لتطهير أنفسهم، بما أن الحمامات الخاصة لم تكن موجودة إلا في بيوت النخب. وبهذا المعنى، كانت طقوس النقاء والصحة العامة تتطلب من العاملات والمستحمات عبور الحدود بين الفضاء العام الخاص بالرجال والمساحة الخاصة بالنساء.

ومن ثم وجد الفقهاء  أنفسهم في موقف شائك وسط هذه المفارقة: فمن ناحية، كانوا مضطرين للدفاع عن المصالح الذكورية من خلال حماية حرمة المرأة، ومن ناحية أخرى، كانوا مجبرين بحكم الشريعة على السماح للمرأة بأداء الطقوس التطهيرية المطلوبة. وهكذا، بينما كان المحافظون يناقشون المكان المناسب للمرأة، لاحظ المراقبون المعاصرون ظهور النساء في الأماكن العامة أثناء مغامرتهن من وإلى حمامات حلب التي تفاخرت بضرورات الحشمة الإسلامية علنًا.



خلال هذه الفترة من النهضة الإسلامية، أدان فقهاء قاضي زاده Kadızadeli وجود المرأة في الأماكن العامة، مستندين إلى التقاليد والأحاديث المنسوبة إلى النبي محمد. وأعلن زعيمهم الروحي أنه "لا ينبغي إرسال النساء ليكن مع غير الأقارب [namahremler]، ولا إلى منازلهم أو حفلات زفافهم، أو إلى الحمام العام، ولا لزيارة المرضى إذا لم يكونوا أقارب حميمين [mahremler] ، وإلا "فإن الملائكة سوف تلعن المرأة إلى حين إيابها إلى بيتها". إلى جانب الأوامر الصارمة ضد النساء في الأماكن العامة، أبقى الفقهاء المحافظون  على سلطة الذكور لمنع النساء بشكل فردي من حضور الحمامات. وبرغم ذلك، كان من المستحيل فعليًا حظر النساء تمامًا لأن الفقهاء غالبًا ما اتفقوا على أن المرأة بحاجة إلى الوصول إلى الحمام بعد الولادة، وهو حكم يتوافق مع حكم الفقيه التقليدي الغزالي (المتوفى 1111 م)، الذي جادل في أطروحة حول آداب الحمام بأن" الحمام مُحرّم على النساء إلا مريضة أو نُفَسَاء".

يساعدنا هذا التوتر الخطابي بين الإدانات المتحفظة على ظهور النساء في الأماكن العامة ومتطلبات التطهير الطقسي، في تفسير كيفية تشابك مخاوف متعددة في ما يخص الحمام العام. تؤكد كتابات رجالات الأدب المسلمين والمسيحيين من تلك الفترة القلق بشأن الحمام بسبب ارتباطه بالجنس غير المشروع والفجور العام. فها هو الفقيه الدمشقي عبد الغني النابلسي (1640-1731) يقدم في عمله لتحليل الأحلام، قراءة مُجنسة للغاية لرمزية الحمامات، حيث ترتبط الحرارة (الحميم) ارتباطًا مباشرًا بكل من الأنوثة والجنس غير المشروع. ويكتب"ومن رأى أنه حمامي أو القائم فيه لا يخدم الناس في الحمام فإنه قواد ولد زنا لا يطاوع الناس ولا ينتفع منه". فالحمام، بالنسبة للنابلسي، مكان للنميمة التشهيرية، لأن الشخص الذي يزوره لفترة طويلة من الوقت قد يتكلم بالسوء عن امرأة وستنتشر التفاصيل المسيئة لمثل هذه المحادثة إلى المجتمع بأكمله. ويكتب أيضًا أن "الحمام موضع كشف العورة"، وهو مساحة حيث يشكل عُري المرء لا محالة تهديدًا لمتطلبات الاحتشام المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية وفي تحليله لحلم الرجل ببناء حمام، يجادل النابلسي بأن ذلك يمثل "الفحشاء" و"يشيع عليه ذلك ويخوض فيها ويفتش عن العورات". 



وبالرغم من أن النابلسي جَنسَن الحمام وربطه بالسلوك الجنسي غير المشروع للمرأة، إلا أن بعض الكتّاب ربطوا ذلك بالجنس غير المشروع بين الرجال. ففي القرن الثامن عشر، قدم أحمد الحيمي الكوكباني (ت 1738/39) موضوعات مماثلة. وأشاد، في عمله على الحمامات، بجمال الشباب المرتادين للحمام، وأسهب في رواية مشاهد حكائية عن المغازلة بين الزبائن والفتيان. في وقتٍ دعت فيه المراسيم السلطانية التي ترجع إلى أواخر القرن السادس عشر مفتشي الحمامات إلى توبيخ "الشباب ذوي الخدود الناعمة" الذين أفسدوا المستحمين الذكور الأكبر سنًا. وتشير هذه المراسيم، بوصفها جزءًا من خطاب أوسع حول العلاقات الجنسية المثلية في الحمامات العثمانية، إلى وجود روابط بين الحمام والفجور الجنسي، ويشير والتر أندروز  Walter Andrews إلى أن السلطات العثمانية كانت مستعدة للتدخل في مثل هذه الأمور فقط عندما يشتكي الجمهور أو عند تعرض فتى لاعتداء جنسي.

وربط المسيحيون أحيانًا، مثل نظرائهم المسلمين، الحمامات بالفجور الجنسي. ففي القرن السابع عشر، امتدح الرحالة الأرمني البولندي سيميون ليهاتسي  Simeon Lehatsi حمامات حلب الساحرة، لكنه أدان أيضًا التجاوزات الأخلاقية داخل الحمام بطريقة مشابهة لكل من المسلمين العثمانيين والمستشرقين الأوروبيين كاتبًا أن النساء العربيات "متهتكات ووقحات، لا يخجلن من بعضهن البعض ويمشين عاريات بشكل مُخٍز. يذهبن إلى الحمام عاريات وسافرات، وأن الخدم يُضجعون الرجال والنساء ويغسلون أعضائهم الحميمة". قضى ليهاتسي وقتًا طويلاً مع الأرمن في بلاد الشام، ومن المحتمل أن بعض وجهات النظر هذه قد تأثرت بمخبريه المسيحيين المحليين. وتؤكد إدانته لعدم احتشام الرجال والنساء في الحمامات على استحواذ خطاب الافراط الجنسي المتصل بثقافة الحمامات على مخيلة كل من الأخلاقيين المسيحيين والمسلمين في هذه الفترة.

وبعد قرن من الزمان، سيعرب القس الروم الأرثوذكسي ميخائيل بريك عن استنكاره للنساء المسيحيات اللائي يرتدين ملابس غير لائقة ويتصرفن بشكل غير أخلاقي في الحمامات العامة والمتنزهات وحتى المقابر. وأشار، في تأريخه لعام 1759، إلى أن الثراء المسيحي أدى إلى الفساد، حيث كانت النساء "تدخن التبغ في المنازل والحمامات والحدائق، وحتى في مشاويرهن بجوار الأنهار أثناء مرور الناس". وكما يوضح جيمس جريهان، لم يكن استهلاك التبغ قد أصبح أمرًا مألوفًا بين الرجال، مما يجعل استهلاك النساء له أكثر إثارة". واشتكى بريك من أن النساء المسيحيات، وبتدخينهن مادة ترتبط بشكل متزايد باستجمام الذكور في الحمامات العامة، "تعدين الحدود" بشكل واضح. 

تنظيم الحمامات في حلب القرن الثامن عشر 
تكشف سجلات محكمة حلب الشرعية عن الطريقة التي تلاقت بها المصالح المحلية والإمبراطورية لتنظيم تعدي الأقليات الدينية والنساء في القرن الثامن عشر. إذ كانت حلب، في ذلك الوقت، ثالث أكبر مدينة في الإمبراطورية العثمانية، وتمتعت بموقع مركزي على طول طريق الحرير. ويقدر تاريخ أبراهام ماركوس الاجتماعي الأصيل لحلب أن غير المسلمين شكلوا ما بين 20 و 24 في المائة من سكان المدينة في القرن الثامن عشر، وهي نسب تبرر بالتأكيد المزيد من استكشاف تفاعلات السكان اليومية داخل مثل هذا المجتمع غير المتجانس.



وضمت حلب العثمانية خمس محاكم شرعية، حيث نُظِر في قضايا من جميع الأنواع، من الجرائم الصغيرة إلى القتل، حكم فيها القاضي، ولخصها كاتب المحكمة في سجل محاكمته. وتستند الدراسة الحالية إلى مسح لستة وخمسين سجلاً من سجلات محاكم الشريعة الإسلامية، حيث برزت سلسلة من القضايا المتعلقة بالحمامات بين عامي 1718 و 1795. إذ اكتُشفت عشرة تسويات قضائية سعت إما إلى فرض متطلبات لباس محددة للرجال داخل الحمامات أو لتفويض الفصل بين المستحمات المسلمات وغير المسلمات، في حين لم تظهر مثل هذه الاتفاقات قبل أو بعد هذه السنوات في السجلات الأرشيفية. وركزت حالة واحدة فقط على موضوع حياء الرجل واستهدفت جميع المستحمين الذكور بغض النظر عن دينهم.

كما كانت غالبية اللوائح تتعلق بالنساء، فسبع من عشر حالات كانت محاولات لحظر الاستحمام مختلِط الطوائف بين عامي 1726 و1795. وكانت معظم الوثائق المسجلة في محاكم حلب عبارة عن اتفاقيات بين أعضاء مسلمين من نقابة عمال الحمامات الذين قاموا، كما هو الحال في الأمور الأخرى، بتوثيق اتفاقياتهم في المحكمة. غير أن وثيقتين اتفاقيتين سُجلتا بين نقابة أصحاب الحمامات والرجال المسيحيين واليهود ممن مثلوا نظام المِلة العثماني المتفق عليه. ولم يكن أي من المدعين في هذه القضايا امرأة، وفي الواقع، لم تظهر النساء أمام المحكمة على الإطلاق.

ويستحق الدور المهم الذي لعبه نظام النقابة في السوق العثماني وفي حفظ النظام بشكل عام استطرادًا وجيزًا. إذ كانت النقابات وسطاء بين السوق والدولة، تنظم السلع والخدمات الهامة، بما في ذلك الحمامات العامة. ونظرًا لأن الضبط المديني المبكر ممثلًا بالشرطة كان غالبًا ضعيفًا، فقد قامت كل من النقابات والمجتمعات المحلية بمراقبة السلوك غير الأخلاقي لأعضائها. ورصدت النقابات الغش في الأسعار والأوزان وأسعار السلع والخدمات المنظمة في الاقتصاد العثماني، بما في ذلك رسوم الحمامات. ونظمت السلطات العثمانية الأسعار وسيطرت على الخدمات الأساسية والمواد الغذائية بكفاءة من خلال هيكل النقابة.

ولم تكن كل النقابات مسلمة حصريًا، بالرغم من أن رجال النقابات المسلمين وضعوا لوائح الحمامات المسجلة في المحاكم الشرعية في حلب. وكان ممثلو نظام الملة إلى جانب النقابات، ذراعًا رئيسيًا آخر للسلطة العثمانية. وكُلِّف كلاهما بتحصيل الضرائب والتمسك بالمعايير الأخلاقية والقانونية التي وضعتها الدولة. ولذلك، شكّل ممثلو النقابات والملة امتدادين مهمين للسلطة العثمانية وعُهد إليهما بضبط الحدود التي لم ترغب الدولة ورعاتها من ذكور النخبة في تجاوزها.

في المقابل، أكدت السلطات العثمانية سيطرتها المباشرة على المناطق العامة - الحمامات والمساجد والأسواق - من خلال لوائح السوق، والمراسيم الإمبراطورية، والفرمانات، والآراء القضائية. كما ساعد السكان المحليون، وهم المنسقون الرئيسيون للإدانات العامة، في الضبط غير المباشر للمساحات الحضرية الخاصة وشبه الخاصة. وشهد القرنان السابع عشر والثامن عشر تصاعدًا في مراقبة النساء وغير المسلمين من قبل السلطات العثمانية والنخب المسلمة المحلية التي سعت إلى تأديب كلا المجموعتين، وخاصة النساء، عندما تجاوزن الحدود المقبولة.

وشهدت حلب طفرة في الضبط الجنسي على المستوى المحلي في القرن الثامن عشر على وجه الخصوص. وشمل هذا الملاحقات القضائية لانتهاكات الأخلاق العامة، مثل البغاء، والاختلاط بين الرجال والنساء، والجماع المثلي. ونُفذ كثير من أعمال الضبط والمراقبة هذه من قبل البلدات والقرى والعائلات حيث  عرّف القانون العثماني هذه المجتمعات على أنها "أجسام وهيئات قانونية" مكلفة بمراقبة أفرادها. أظهرت فاريبا زارينباف Fariba Zarinebaf أنه بحلول القرن الثامن عشر، وسعت الدولة العثمانية بشكل كبير من قدرتها على مراقبة سكان إسطنبول، باستخدام مزيج من الأشكال القديمة للمراقبة المجتمعية والشرطة الحديثة والسجون.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها