يبدو أنّ هذا النوع من الأدب، أو الروايات السوداء، يلاقي رواجاً في أوساط الشبيبة، حيث التشويق والعنف والجنس، كما يلاحظ في الجزء الثاني حيث تشتدّ حروب السلطة والنفوذ وتقوى العلاقات الودّية والفرص الجديدة والخيانات، وحيث تبدو عائلة سكوت على وشك منعطفٍ جديد. يتّضح من ذلك أنّ هذا النوع من الكتابة موجّه إلى شريحة محدّدة من القرّاء، وربّما من الفتيات القارئات حصراً، اللواتي يجدن في هذه الأجواء المحمومة، ما بين العنف والجنس إثارة ما، تشويقيّة وعاطفيّة وجنسيّة حتى، لِمَ لا؟ فمن يطلع على غلافات الكتب على منصّة واتباد يجد ما يشبه ملصقات هذا النوع من الأفلام في صورٍ ووضعيات لافتة ومثيرة. والواضح أنّ هذا ما يجتذب "الجماعة"، جماعة الواتباد كما تسمّى (La communauté)، التي تدلي بتعليقاتها وتصحيحاتها وتشارك أحياناً في تغيير مسار الحبكة، وهؤلاء أنفسهم، من هذه الأعمار، هم الذين رأيناهم في حفلات التوقيع، يحضرون (يحضرْنَ) بكثافة، ويقفون صفوفاً طويلة، لمقابلة الفتاة الغامضة على أرض الواقع بعدما عرفوها في االعالم الافتراضيّ كما تقول سارة، ولكي يحصلوا على توقيعها على نسختهم (بالانكليزيّة والفرنسيّة) "Bonne lecture, with love!" (أتمنى لكِ قراءة ممتِعة، مع محبّتي) وهؤلاء هنّ أنفسهنّ اللواتي يحملْنَ أهلهن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على مطالعة الكتاب، أو يهديْنه للكبار ممّن يهمهم أمرهم. وبالرغم من هذا الاهتمام الجارف، قد تكون لهذه الشريحة آراؤها النقديّة. فهؤلاء الشابّات يعرفْن ما يُحبِبْن، وهنّ متطلّبات جدّا، لا بل أحياناً ناقدات مقذِعات يزرعْنَ التنافس بين الكتّاب[2].
لكن هل تكفي آراء هذه الشريحة، وإقبالها على قراءة هذه الكتب، لكي نحكم على هذا النوع من الأدب؟ وما رأي "الكبار" من القرّاء العاديّين، وليس من كبار النقّاد؟ لقد تتبّعنا بعض التعليقات على منصة واتباد، ولمسنا بشكلٍ واضح آراء سلبية جداً من هذه الفئة في كتاب سارة ريفنز هذا. إحدى القارئات عبّرت عن مفاجأتها بالرواية وأثنت على الحبكة في بدايتها فقط، لكنها أشارت إلى الكثير من الأخطاء وحالات الضعف في بناء الشخصيّات، آملة ألا يكون في النصوص اللاحقة هذا الكم من النواقص. إحدى الأمّهات صرّحت بأنها قرأت الكتاب، فقط لأنّ ابنتها البالغة من العمر 13 سنة، والتي لم تكن تحبّ المطالعة، اهتمّت بالرواية وغرقت فيها وأنجزت قراءتها. وعندما قرأتها هي نفسها أعطت فيه آراء سلبيّة جدّاً، واعتبرته "تهريجة عنفيّة" تسود فيه الفانتاسمات التي تغذيها هذه المراهقات حول قصص الحبّ والعنف والدماء... وقد وجدتها باختصار نموذجاً رهيباً وبليداً حيث الرواية السوداء بما فيها من عنف جسدي ومعنوي وحيث تعاني النسوة الساقطات المعذَّبات من متلازمة ستوكهولم (انْغِرام الضحية بجلادها). أما الأسلوب واللغة، فحتى ابنتها لاحظت كم أنهما ضعيفان (وطبعاً دار النشر تعيد صياغة النصّ وتصحيحه قبل طبعه ونشره كما ورد في مقال الإكسبرس). ثمّ تُنهي هذه الأم بأنها ستجهد لكي تحمل ابنتها على مطالعة أنواعٍ أخرى من الأدب والروايات.
وليس رأي هذه الأمّ ببعيد من آراء سيّدات أخريات قرأن الكتاب إما من باب الحشرية، بعد الشهرة التي لاقاها، وإما لأنهنّ تلقّينه هدية من مراهقات. ومع ذلك حقّقت الرواية وصاحبتها ما حقّقتاه من شهرة ومن مبيعات وصلت، في غضون أشهر فقط إلى 3,5 مليون يورو في فرنسا وحدها، ما عدا مداخيل الترجمة والنشر في دول أوروبيّة أخرى.
كلّ ذلك جعل من ساره ريفنز وأدبها ظاهرة يجدر التوقّف عندها، والنظر في نوعيّة أدبها هذا. لا شكّ في أنّ هذه الظاهرة تشكّل أنماطاً جديدة من القراءة، متولِّدة في وسائل التواصل الاجتماعي، وتمثّل شريحة مختلفة من القرّاء (وهنا القارئات) لها اهتماماتها الخاصة، ومواضيعها المثيرة والمفضّلة، مواضيع تتجاوب مع مشاعر وأحاسيس وغرائز فئة من المراهقين والمراهقات من جيل وسائل التواصل الاجتماعي (فايسبوك وانستغرام وواتباد وأمثالها) التي لا يخفى على أحد أنّها سهّلت على الجميع تناول الكلمة كتابة وتأليفاً وقراءة حتى بتنا نطالع عليها ما هبّ ودبّ، بأصابع الكبار والصغار. وإن تكن هذه الوسيلة، في استعمالها الصحيح والجيّد، مدخلاً إلى عمليّة اطّلاع وتثقُّف، إلّا أنّ ما يُخشى من دورها السلبي، هو أن تؤدّي إلى تنميط هذه الأجيال "وتصنيعها" وفق قوالب معيّنة في مراحل مبكّرة من حياتها فتصبح عصيّة على التغيّر والتطوّر لاحقاً، وهذا ما نلمح بوادره بقوة، ويصبح لهذه الفئة المنمّطة "أوثانها" أو "معلّميها" لمجرد أنها آتية من هذا العالم، وإلا كيف نفسِّر هذا الإقبال على حفلات توقيع كتب سارة، فقط للتعرّف بها شخصياً، ومعانقتها طويلاً بتأثّر كبير بعد الحصول على توقيعها. أليس ذلك أشبه بلقاء المعلّم أو المرشد الآتي من غيب، أو من عالم افتراضي بعيد (هو هنا عالم مواقع التواصل الاجتماعي)؟
ولنكن واقعيين وصريحين أكثر، فبعد اطّلاعنا على الآراء النقديّة الواردة عن كتاب "الأسيرات"، من أناسٍ عاديّين كما ذكرنا، يمكننا تصنيف هذا النتاج في باب الأدب "الهابط" تماماً مثل تلك الفنون والأغاني الهابطة والسخيفة التي جارى أصحابها السوق وسعوا وراء الكسب الماديّ بمعزل عن التطلّع إلى الجودة والإبداع. والدليل نجده في كون مجلّة الإكسبرس أوردت المقال عن سارة في باب "الاجتماعيّات" وتحت عنوان "قصّة نجاح" وما تحقّق من أرباح، وليس في باب "الأدب" أو "الفنّ" عرضاً وتقييماً. وليس هذا النوع بجديد على المجتمعات، بل نجد منه في كلّ زمانٍ ومكان. لكن، فلْنكنْ إيجابيّين، ونأمل في أن تكون هذه المنصّات، وهذه النجاحات، مدخلاً إلى عالم الأدب الحقيقيّ، وأن يحدثّ التغيير يوماً ما في نفوس هؤلاء المراهقين والمراهقات، من كتّاب وقرّاء على المنصّات الاجتماعية، فيتوجّهوا أكثر إلى النتاج الأدبي والفنّي الإنساني العميق والقيّم ليُصنّفوا عندها مع الكبار ليس في المبيعات وحسب بل في الجودة والنوعيّة.
لا بدّ أن يبقى لنا هذا الأمل، ونتشبّث به، خصوصاً بعدما شهدنا، قبل شهرين او ثلاثة، بروز جيل جديد يختلف عن أجيالنا هذه، إنّه جيل الروبوتات من نوع "شات جي.بي.تي." (ChatGPT)، والذي يعدنا بأنّه قادر على بناء رواية متكاملة من معطيات بسيطة تُعطى له في أي موضوع يُطرح عليه. أغلب الظنّ، أنّ جيل الروبوت وجيل المراهقين هؤلاء يُقمّشون من المواضع نفسها، من العالم الافتراضي الذي باتوا يعيشون في كنفه. لكن ما بين الإثنين سنبقى مراهنين على أنّ البشر هم الأقدر على التأقلم والتطوّر والتميُّز بالإحاسيس والمشاعر وعيشها بحدودها الإنسانيّة القصوى ليعبّروا عنها يوماً ما في أدبٍ إبداعي جميل، إنسانيّ وممتِع.
________________
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها