الثلاثاء 2023/03/28

آخر تحديث: 19:05 (بيروت)

البحث عن الزمن اللبناني الضائع

الثلاثاء 2023/03/28
البحث عن الزمن اللبناني الضائع
برج الساعة في ساحة السراي - بيروت العام 1902
increase حجم الخط decrease
يعود التوقيت العالمي إلى لبنان، منتصف ليل غد الأربعاء. ما سُمّي بـ"العصيان المدني" نجح نظرياً، وثمة من احتفى بنجاحه في بلد لا يُنفّذ (أو لا يستطيع) عصياناً مماثلاً ضد المافيا الحاكمة وسعر صرف الدولار ومشاكل الغلاء والتعليم والطبابة. نفّذَت العصيان، مؤسساتٌ ومدارس ومرجعيات روحية ووسائل إعلام، إزاء قرار تجميد العمل بالتوقيت الصيفي خلال شهر رمضان،.. لأسباب خاطئة. سياسية، لكن طائفية. السياسة اللبنانية المريضة كما نعرفها. طائفية الوجود المسيحي الرمزي، في حكم الظِّل وقراراته، ريثما تُحلّ معضلة رئاسة الجمهورية. فيما رئاسة الحكومة المسلمة، كذلك، كانت قد أجّلت العمل بالتوقيت الصيفي، لأسباب هي صورة المرآة لمحفّزات الخطاب المسيحي الغاضب. ثم تراجعت عن القرار، للسبب نفسه، أي استعار الجدل الطائفي، إضافة إلى الإرباك العام، وربما قال مؤامراتيون ظُرَفاء أن الأمر كله "لعبة" لإلهاء الناس عن تمرير قرارات سامّة أخرى، أخطر.


المفارقة أن المسلمين، وحينما كانوا امبراطورية عثمانية، حُكماً إسلامياً وقوة توسع امبريالية، هم أوائل مَن شيّد ساعة عامة في بيروت، على تلة السراي، تكريساً لتخلي الناس عن معرفة الوقت من مقام الآذان، وكان ذلك ضمن إحدى مرحلتَي "التنظيمات"، عندما كان تحديث السلطنة هو الهمّ الأكبر، حسبما روى المعمار والكاتب طوني شكر في "فايسبوك". وتستمر المفارقة 6 و6 مكرر، مع رهبان القرن الرابع عشر الأوروبيين الذين كانوا أول من نظّم الساعة وأخضعها للقياس، إذ بنوا أجساماً من الحديد تضرب تلقائياً (وإن من دون كثير دقة) في فترات زمنية معينة لمساعدة قارعي الأجراس على ضبط ساعات الصلاة. وأدى الحماس الديني لقوننة الوقت والحياة حوله، بالمؤرخ الأميركي لويس مومفورد، إلى وصف الرهبان البنديكتيين بأنهم "ربما يكونون المؤسسين الأصليين للرأسمالية الحديثة". لم تخلق الرأسمالية وقتاً على مدار الساعة، ولا العكس صحيح. لكن التقسيم العلمي والديني للوقت، إلى وحدات متطابقة، أنشأ بنية تحتية مفيدة للرأسمالية لتنسيق استغلال وتحويل الأجساد والعمالة والسلع إلى قيمة، ورُبِط الوقت بالمال، كما تقول العبارة الأميركية الشائعة اليوم... وهكذا مهّد رهبان لعَلمَنة الوقت في العالم، ما أحدث الطلاق مع الرب – صانع الزمن الأول.

الاعتراض على الساعة، والتلاعب بها، ليس جديداً، وكان دائماً سياسياً. أحد أمثلته الكثيرة كان ظهيرة يوم 15 شباط 1894، حينما سار الفرنسي مارشال بوردين في حديقة غرينيتش شرقي لندن، متجهاً إلى المرصد الملكي المُنشأ قبل 10 سنوات كمركز رمزي وعلمي للساعة العالمية والإمبراطورية البريطانية. في يده كيس ورقي بني يحتوي على علبة معدنية مليئة بالمتفجرات، جهزه بزجاجة من حامض الكبريت، وفي مواجهة المرصد، انفجر بين يديه. نُقل إلى مستشفى قريب حيث توفي بعد 30 دقيقة وماتت معه حقيقة نواياه. لكن التحقيق أظهر أنه كان على صلة بجماعات أناركية وأنه أراد مهاجمة المرصد، كعمل ثوري رمزي، أو بتفكير ساذج قوامه أنه قد يعطل بالفعل القياس العالمي للوقت. لم يكن بوردين الوحيد في تلك الفترة: في باريس، دمر المتمردون الساعات العامة في أنحاء المدينة في وقت واحد. وفي بومباي، حطم المتظاهرون ساعة سوق كروفورد الشهيرة. كان ذلك زمن ثورات متعددة، منها الثورة على الزمن الرسمي. ذلك أن الخدعة انكشفت باكراً: الساعة لا تقيس الوقت، بل تنتجه، وعلاقة الإنتاج هذه متبادلة مع السياسة... ديموقراطية كانت أو استبدادية.

في 15 آب 2015، أرجع كيم جونغ أون، ساعة كوريا الشمالية، ثلاثين دقيقة، بمناسبة الذكرى السبعين لاستقلال كوريا عن اليابان التي كانت قد فرضت تلك الدقائق الثلاثين التزاماً بالتوقيت الياباني، وبقيت كذلك. فأراد كيم، بنفي الدقائق تلك، التعبير عن ازدراء رمزي جديد لـ"الإمبرياليين اليابانيين الأشرار"، وفقاً لوكالة الأنباء الرسمية. وفي روسيا، استمر "الوقت الشمسي" حتى العام 1919، أي إلى أن قام البلاشفة بحل مسألة إرباك القطارات، المعتمدة، بقرار من القيصر على "توقيت سان بطرسبرغ"، فكرسوا التوقيت الغربي (حتى البلاشفة أيام عزهم أعطوا الحداثة الأولوية على العداء للغرب). وفي العام 2007، أعلن هوغو تشافيز منطقة زمنية فريدة لفنزويلا (التي يشاطرها لبنان الآن مراتب الانهيار بل يتفوق عليها فيه). فأعاد ساعات الأمة إلى الوراء ثلاثين دقيقة، بعدما كان قد عدّل العَلَم الوطني أيضاً. السبب المعلن، أن "الرئيس الثائر" أشفق على الأطفال من الذهاب إلى المدرسة في العتمة. لكن محللين أشاروا إلى أن إعلان المنطقة الزمنية الجديدة جاء بعد فترة وجيزة من رفض الجمهور الفنزويلي الاستفتاء الوطني الذي أجراه شافيز، وبتغيير المنطقة الزمنية، أظهر "الرفيق القائد" قوته.

بعد منتصف ليل الأربعاء-الخميس، ستنقضي تجربة اللبنانيين مع التوقيتَين المتزامنَين، لكنها ستظل تجربة فريدة في عصرها. خارج الحداثة المرتبطة من أوّلها بالساعة. وفي الوقت نفسه، خارج الدولة، حتى بصيغتها المنهارة. أيام قليلة، لكن طويلة، عاشها اللبنانيون على غرار العامِلين في الغواصات والمحطات الفضائية. خارج الزمن، حرفياً.

الحداثة، وتحديداً منذ انتشار سكك الحديد وشبكات القطارات ومأسسة الدولة، كانت المحدد الرئيس لتحول الساعة من ظلال العصي على الأرض، إلى عقربَين صارمَين. ذات يوم، كان لبنان معنيّاً بذلك، لكن ليس اليوم بفوضاه العارمة. حتى تمرد الحداثيين على الساعة، لم يقترب منه العصيانُ اللبناني الظافر. فالتجارب الزمنية التي نظّر لها الفرنسي هنري برغسون، وأثّرت في كتابات فيرجينيا وولف ("السيدة دالاوي" و"إلى المنارة")، ومارسيل بروست ("البحث عن الزمن الضائع") ودوروثي ريتشاردسون (سلسلة رواية "الحج")... احتوت توقيت الحداثة في داخلها، قبل الانقلاب عليه وتهشيمه.

جادل برغسون في أن للوقت وجهَين. الأول هو "الوقت الموضوعي": الساعات والتقويمات وجداول مواعيد القطارات. والثاني، la durée (المدة)، هو "وقت العيش" وتجاربنا الذاتية الداخلية. وكطريقة لاستعادة التجربة النوعية والذاتية للوقت، طوّر برغسون مفهوم "المدة الصافية" كسلسلة من التغييرات النوعية، التي تذوب ويتخلل بعضها بعضاً. وبالنسبة للعديد من الكتّاب الحداثيين، أَذِن المفهوم هذا بوضع الهيكل الزمني للحبكة السردية التقليدية جانباً، لتسهيل استكشاف أعمق لما أسماه برغسون "البيانات الفورية للوعي".

في المشهد الأشهر من "البحث عن الزمن الضائع"، يأخذ الراوي لقمة "مادلين" (كعكة فرنسية صغيرة) مغمّسة بالشاي، فتنقله عبر الذاكرة إلى طفولته في بلدته كومبراي: "فجأة كشَفَت الذكرى نفسها. كان الطعمُ طعمَ قطعة المادلين الصغيرة التي تعطيني إياها، صباح يوم الأحد في كومبراي، عمتي ليوني، عندما أقصد غرفتها لأقول لها صباح الخير، وكانت تغمسها أولاً في كوب الشاي أو الزهورات الخاص بها". هكذا، باتت "المادلين" مُطلِقة سلسلة ذكريات لاإرادية. مثلما أن السرد الخيالي نفسه في عالم بروست، لا يُدفع بتقدم وقت الساعة أو الروزنامة، بل بنبضات الذاكرة... فهنا فصل يمتد يومَين، وهناك آخر، مُساوٍ في الحجم، يمتد سنوات.

في خربطات التوقيتين المتزامنين، ضمن بلد متناهي الصغر وهائل الأزمات والصراعات الأهلية، بنكهة القرن التاسع عشر وما قبل... وكذلك بالعودة إلى انتظام المواقيت العالمية، تبدو التجربة اللبنانية الوجيزة مع استبداد الساعة والثورة عليها، حالة استثنائية وخارجة، بالمعنى السوريالي والمأسوي للكلمة. وإذا اعتمدنا مسطرة "تيار الوعي" البرغسوني لفهم السردية/ات العامة التي تفشت في الإعلام والشبكات الاجتماعية وأحاديث اللبنانيين، خلال حقبة "الساعتين" من الزمن المحلي الضائع، فلن نرسوَ إلا على سلسلة تداعيات الفضائح المعلومة في "مدة صافية" صفاء الطائفية والرثاثة الناجزة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها