* نلاحظ أهمية المكان لديك، ما بين المكان المحلّي (الوطن، البلدة...)، ومكان المهجر والاغتراب، حيث الذاكرة تعمل على المعالم وتستنطقها في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. فما دور المكان في أدبك؟
- تمتدّ جغرافيتي الأدبية، على مثال حياتي، امتداداً فسيحاً من مطلات جبل لبنان إلى الشواطئ الأطلسية عند تخوم بلاد النورمان والبروتون، مروراً بضفتي المتوسط، من وادي قاديشا شرقاً إلى مرتفع الملاك ميخائيل غرباً، عبر عدد لا يحصى من الأمكنة. لكن ليس كل الأمكنة، بل الأمكنة المختارة، المنتقاة فقط، التي تلج الذات وتصبح جزءاّ منها. وهي أمكنة مسكونة بسرها وسحرها، ترتفع فوقها روحها كرداء. كل الأمكنة الماثلة في أعمالي الأدبي، أراها كما هي في داخلي وليس في العالم الخارجي قط. هي تندرج في علاقتي الوجودية الوثيقة بالطبيعة. وأودّ الإشارة أيضاً إلى أن جغرافيتي الأدبية واقعة خارج صراع الحضارات. فالأمكنة فيها موحدة، على مدى العالمين، في جماليتها، وجوهرها، وفي الرأفة بالمصير البشري الواحد (أينما كان، وعلى الرغم من تعدد الثقافات واللغات) أمام حلول الليل وطلوع الفجر، وأمام عبور الزمن ومهاوي القلق ورحلة الأشواق وغابة الأوهام وهشاشة الجسد وسلطان الموت.
* كيف تصنّف أعمالك الأدبية المنشورة؟
- التصنيف، بمعنى ما، واضح. هناك الكتاب الشعري (كتاب الحالة)، وكتب النصوص السردية (حديقة الفجر، رتبة الغياب، الخلوة الملكية)، والكتب الروائية (عبور الركام، حامل الوردة الأرجوانية، غريقة بحيرة موريه، آخر الأراضي).
* أعذرني إذ ربما أكرر نفسي من أجل المزيد من الإستيضاح. لماذا اكتفيت بكتاب شعري واحد؟ هل هجرت الشعر الى الرواية؟ هل يمكن أن تهجر الرواية أيضاً؟ إلى أين؟
- لم أهجر شيئاً إلى شيء. منذ البداية، على امتداد "يوميات الحياة الداخلية"، تتضمّن لغتي هذين البعدين: الشعري (التجريد والتكثيف)، والسردي (التحديد والتفصيل)، وذلك قبل النشر بكثير. وانا كما ذكرت أعلاه لم أتوقف عن الكتابة الشعرية. في أعمالي السردية والروائية الكثير من المقاطع الشعرية البحتة المندرجة في متن النصوص.
أما لماذا أكتفيت بكتاب شعري واحد هو "كتاب الحالة"، فكما قلت أعلاه، هو نتاج تجربة شعرية طويلة على مدى أكثر من ربع قرن. وأنا لم أكن أريد نشر سواه. لكن نصوص سردية عدّة في "يوميات الحياة الداخلية" دفعتني فيما بعد إلى السّرديّات والأعمال الروائيّة، بعد أن تخطيتُ رفض النشر. ثم هناك أمر آخر كثيرالأهمية لديَّ، هو طبيعة مفهومي للكتابة الشعرية. النص الشعري، في رؤيتي، هو الذهب الجمالي، والوجودي، والروحي، والكوني، الخالص. وهو محاولة تجسيد تلك "اللحظة المتوهجة" التي تكمن فيها كل دعوتي الأدبية. وأنا لا أرى إمكانية نشر الكتب الشعرية كل سنة، أو كل حقبة من الزمن. إنه كتاب الأسرار والكتاب المقدّس. أذكر أني، في العام 1968 ، حين وضعت الصيغة النهائية لتلك النصوص الشعرية (المكتوبة قبل ذلك) لنشرها في مجلة "الوعي اللبناني"، ووضعت لها عنوان "هواجس النهار الأربعة "، تساءلتُ في سرّي: أشعر أني قلت في هذه النصوص كل شيء، فماذا عساني أكتب بعدها؟ هو تساؤل أطرحه على نفسي في كل مرة أكتب فيها نصاً شعرياً.
* إذا نظرنا من زاوية البعض، هناك من يرى أن رواياتك استئناف لنصوصك النثرية، ولم تخلق عوالمها الجديدة. هل توافق هذا الرأي؟
- أتفهمّ تماماً هذا الرأي. هذه نظرة جد بعيدة من رؤيتي الأدبية، لكنها منتشرة لدى العديد من الكتاب والنقاد والقراء. ثمة من يقول ان كل كتاب جديد تصدره، يجب ان يأتي بلغة جديدة، وبموضوع جديد. عندما صدر كتابي "رتبة الغياب" (في العام 2000)، لفتتني ملاحظة روائي صديق حول بداية الكتاب حيث نقرأ: "بعد بضعة أيام من ذلك اللقاء تذكّرتُ امراً ورد فيه لفت فجأة انتباهي...". سألني باستغراب كيف أقول "ذلك اللقاء" في الجملة الأولى من الكتاب، إذ لا ذكر له من قبل. أجبته بأني أشير إلى لقاء ما، ورد لديَّ ربما في كتاب سابق أو نص سابق. بالنسبة إليه، لا بد أن يكون كل كتاب مستقلاً عن الآخر، ويحمل موضوعاً مختلفاً عن الآخر.
أنا في مكان بعيد من ذلك كله. لا لغة جديدة لي في كل كتاب، فلغتي واحدة لم ولن تتغير على مرّ الزمان. وأنا لم أختر هذه اللغة لأغيّرها، فهي لغة نفسي، ولا لغة لي سواها. ولا أتصوّر أدباً كبيراً بغير لغة واحدة لا تتغيّر، هي لغة الذات. كما أني جد بعيد عن أدب الموضوعات، الرائج في الأعمال الروائية المعاصرة، حيث يختار المؤلف لكل رواية موضوعاً جديداً يجهد في جمع المعلومات التوثيقية عنه، التاريخية والمجتمعية والثقافية وغيرها. أنا في موقع آخر. أرى جميع مؤلفاتي الأدبية كتاباً واحداً، يعبّر عن عالم واحد هو عالمي الداخلي. تظهر في هذا المؤلف أو ذاك أشخاص وأمكنة سبق أن ظهرت بصورة أو بأخرى في مؤلفات سابقة لي، لم أكن أستنفدت عوالمها ودخائلها. فزمني الذاتي دائري متواصل. يظن البعض أنّ العالم الداخلي ضيق ومحاصر. هو في الحقيقة كل شيء، ولا شيء خارجه. وهو الكون برمّته، وحين تنطفئ الحياة الداخلية ينطفئ الكون. فما أنا إلا شاهد، أشهد لما أنا فيه.
* في الروايات الثلاث الأخيرة تجربة ذاتية غنية وعاصفة أحياناً، في الحب، في الغوص في الوجود والحياة. ما هذه الرغبة لديك في التوغّل في أعماق الذات البشرية؟
- صفة "التجربة الذاتية" لا تنطبق على الروايات الثلاث الأخيرة فقط، بل على جميع أعمالي الأدبية. تراها عاصفة أحياناً؟ لا أدري. ثم ليس هو الحب تحديداً، بل أبعد من ذلك، هو الوله والشغف. وأنا أودّ أن تنتمي كتابتي إلى "أدب الأعماق". لكن الروايات الأخيرة، وقبلها "عبور الركام"، كما كل مؤلفاتي، هي أبعد ما تكون عن أدب الموضوعات، الفكريّة والتاريخيّة والسوسيولوجيّة والفلسفية وغيرها. ربما تظهر ظلال وعناصر من كل ذلك في سياق الرواية، لكنها غير مقصودة في حد ذاتها، وليس من سَعْيٍ إليها. ذلك أن رواياتي لا تدور على موضوعات، بل على هواجس ورؤى ونزعات دفينة. "عبور الركام" يسكنها هاجس دمار الطبيعة ودمار الذات الجماعية، الذي هزّ كياني بعد عودتي من هجرتي الباريسية الطويلة. وفي "حامل الوردة الأرجوانية" يتألف العمل الروائي حول هاجس الخوف من فقدان الحرية. وتتمحور رواية "غريقة بحيرة موريه" حول هاجس الوله واستحالة النسيان. أما " آخر الأراضي" فهي كتاب الموت بكل ظلاله. هذه هي الهواجس الماثلة في السمفونيات الروائية الأربع الأخيرة. وهي بعيدة عن أدب الموضوعات، لانها لا تستند أساساً إلى الفكر، بل إلى الوعي واللاوعي في آن معاً، حيث تلتقي الحالات والرغبات والمشاعر والأحلام والرؤى المضمرة والأسرار ووجوه الأحياء والأموات وأشياء الطبيعة وأبعاد الزمان الثلاثة، وحيث تحتل العقلانية الفكرية حيزاً محدوداً (المستوى الفكري البحت هو الأبسط بين مستويات الذات). وهذه الروايات بعيدة عن أدب الموضوعات أيضاً لأنها لا تسعى إلى توصيف الحقيقة وتعميمها، الفلسفية منها أو سواها، ولا إلى أي توجيه أو أمثولة.
* أعود لأطرح سؤالاً سبق أنْ طرحته عليك قبل سنوات، وقد أوحت به إليّ بعض الصِّيَغ أو التعابير أو الحالات الموصوفة في أدبك ككلّ: هل في أدبك شيءٌ من الصوفيّة؟
- أجيبك كما أجبتك من قبل: لا منحى صوفيّاً في أدبي. الصوفية، ضمن الروحانية الدينية، هي سعي الذات للتوحد المباشر مع الله، للارتقاء إلى شكل أسمى من الوجود والمعرفة. وهي نمط حياة تتطلبه هذه الدعوة. أنا لست في هذا المسار، والدعوة الصوفية ليست دعوتي.
لكني ماثلٌ أمام "باب الأسرار"، ومنتظرٌ عبور "اللحظات المتوهجة" في فسحة الذات التي يتطلب التعبير عنها حيوات عدة كاملة، ومقيمٌ من دون إرادة مني في تلك النقطة من الكون التي يصل إليَّ منها كل ذلك. وكما يرد في "كتاب الحالة": "عبرتُ الأماكن وشاهدتُ المشاهد، وعرفتُ بهاء ما يُرى وعتمة ما يُرى، وسرى فيَّ سحرُ المدى فصرتُ به مسحوراً، ووُصِلتُ طويلاً بما أنا به موصول، وكثرتْ عليَّ الإشارات، وفُتِحَتْ لي المطلات، وأخذتني رغبةُ الانتشار، وارتفع فيَّ الحنين المضيء، وأردتُ اختصار كلّ شيء وامتلاك كلّ شيء".
* كانت السنتان 2020 و2021 قاسيتين عليك وعلى العائلة، من حيث حالات الفقدان، بسبب كورونا أو العمر أو المرض، حتى بدا أن القدر ألقى بنوازله عليكم دفعةً واحدة (الوالدة ماريا، الأخت تيريز، الأخ جبور، الصديقان فارس وملحم... إضافةً إلى تجربتك المرّة مع كورونا). هل سنرى شهادتك في ذلك في كتاب ما؟
- لا أدري كيف أجيب عن ذلك. كل هذه التجارب المأسوية القاسية التي عشتها، كنت مهجوساً بها قبل وقوعها بزمن بعيد، وكنت مهجوساً بها على الدوام. هي ماثلة في الخلية الخفية المغلقة داخل نفسي حيث نقرأ: "يا لهول الاحتمال، كلُّ ما هو ممكن الحدوث حادِث"، ونقرأ: "هذه الفضيحة الكونية التي هي هشاشة الجسد البشري"، ونقرأ: "في كل لحظةِ سكينة هلعٌ داهِم، من يحرّرني من هذا الانتظار؟"، التي لا تفارقني قط. كل ما كتبته، وما سوف أكتبه، هو شهادة لهم.
* أنت عاشق للبنان وجغرافيته وثقافته وتعدديته... كيف تقرأ أزمات هذا البلد، وخصوصاً أنها تزامنت مع مئوية تأسيسه؟
- أنا عاشق للبنان، وهو جرح فاغر في نفسي. ماذا تراني أقول امام الوضع المزري الذي وصلنا إليه؟
ثمة مرحلتان مختلفتان في التجربة اللبنانية وفي تاريخ الصيغة اللبنانية. المرحلة الأولى، على مدى 114 عاماً (من 1861 إلى 1975) التي، بالرغم من مشكلاتها وثغراتها وأخطائها، أعطت المشرق أهمّ إنجازاته النهضويّة والإبداعية، الفكريّة والمعرفيّة والجامعيّة والتعليميّة العامة والأدبيّة والفنيّة والصحافيّة، والطباعيّة والقضائيّة والطبيّة والمصرفيّة والسياحيّة، وفي مجال الاستثمار في الإنسان وفي الثروة البشريّة، وعلى صعيد الانفتاح والتفاعل مع الحداثة والعالم. كما خلقت في قلب المشرق نمط حياة فريداً، تتجسّد فيه الحريّات الشخصيّة، حريّة العيش والمُعتقد والتعبير والتربية والتعليم والعمل والتنقّل والسفر وسواها، ويكرّس قبول الإختلاف والتعدّد، ويولي أهميّة بارزة لنوعيّة الحياة البشريّة. وهو نمط حياة لا مثيل له، من الشاطئ المتوسطيّ إلى تخوم الصين. بحيث أضحى "نمط الحياة اللبناني" حلم العرب من المحيط إلى الخليج، وتمضية بعض الأيام في ربوع لبنان أُمنية كل عربيّ. وأضحى لبنان مساحة الحريّة الوحيدة المُتاحة في المنطقة، وملجأ المعارضين والمضطهَدين الأوحد، وباتت بيروت "منارة الشرق".
وهي إنجازات تعود في الدرجة الأولى لحيويّة المجتمع اللبنانيّ ونُخَبه الثقافيّة والعلميّة، أكثر ممّا تعود لمؤسّسة الدولة. وليس من المبالغة القول إنه على مدى تلك المرحلة الطويلة، وبإستثناء بلاد النيل، خصوصاً مطلع القرن العشرين (التي كان للمهاجرين اللبنانيين دور فاعل فيها أيضاً)، قلّما شهد المشرق إنجازات حضاريّة لافتة خارج الكيان اللبناني، حيث بقي مجمل المُحيط مَرتعا لقسوة الديكتاتوريّات وخنق طاقات الشعوب الإبداعيّة وقمع الحريّات، ومسرحاً للتنكيل بالأصوات المختلفة والمفكّرين الأحرار والمناضلين الوطنيين، وما رافق هذا المسار من شعارات فارغة ومن خواء فكري ومعرفي.
وهناك المرحلة الثانية من التجربة اللبنانية على مدى 48 عاماً (من 1975 إلى 2023 ) التي يمكن اختصارها بمحاولة هدم إنجازات "النموذج اللبناني" وطمس هويته.
ما الذي أدّى إلى خراب لبنان؟ بعيداً من الأطروحات الببغائيّة الرائجة لدى غير المتعمّقين في المسألة اللبنانيّة، ليست "الصيغة اللبنانيّة" هي التي منعت الإنتقال من مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد، وليست "الصيغة اللبنانيّة" هي التي أدّت إلى الفساد العميم، وإلى خراب لبنان. ففي ضوء النتائج التي وصل إليها قرن كامل من التجارب والتحوّلات السياسيّة المشرقيّة، منذ إنهيار السلطنة العثمانيّة حتى اليوم، لم يستطع إيّ نظام حكم في المنطقة دمج الجماعات (الدينيّة والمذهبيّة والأثنيّة والقبليّة) في مجتمع أفراد، ولا منع الحروب والصراعات الداخليّة القاتلة، ولا ضبط إستفحال الفساد. وهذه ليست حال المشرق فحسب، بل العديد من مناطق العالم أيضاً، لعوامل كثيرة لا متّسع الآن لتحليلها. بل على العكس من ذلك، خففت "الصيغة اللبنانيّة" كثيراً من حدّة صراع الجماعات الطائفيّة والمذهبيّة وغيرها، وأرست التوازن بينها، وأبعدت عن لبنان جدليّة الساحق والمسحوق الرهيبة، السائدة في مجتمعات المنطقة ، والمُدمّرة طاقات الشعوب الخلاّقة لأجيال.
ما الذي أدّى إلى خراب لبنان؟ العامل الرئيسي هو التالي: حلم الحريّة الذي يحمله "النموذج اللبناني" في أساسه وفي تكوينه العميق، وسط محيط تسوده الأنظمة الأمنيّة والقمعيّة، وذلك التجاذب الأبدي بين حركة الدمج في نظام الإستبداد الإقليميّ، من جهة، وحركة الإفلات منه وتَخَطّيه، من جهة أخرى. إن استمرار نظام الحرّيات وسط محيط أمني مطبق، يتناقض معه ويسعى لاختراقه على الدوام، على وقع تجاذبات المنطقة ومتاهاتها، هو مغامرة دائمة بالغة الصعوبة ورهان هائل. وعلى الرغم من المخاطر والمصاعب والأخطاء، الداخليّة والخارجيّة، استطاع "النموذج اللبناني" تحقيق ذاته وتقديم مكاسب حياتيّة ووجوديّة وثقافيّة فريدة لأجيال متوالية من البشر، على مدى 114 عاماً. وعلى الرغم من الإنهيار الذي بدأ العام 1975، وقد وصل الآن الى اللجّة السفلى، ما زالت ملامح نمط الحياة اللبناني وأضواء الحريّات في التجربة اللبنانيّة تلوح، ولو خافتة، تحت الرماد، وما زلنا نرفع راية الرجاء والأمل.
* هل من مشروع كتاب جديد قريباّ؟
- أعمل في الحقيقة على مؤلفين، رواية وكتاب شعري. الرواية، التي أرجّح أن يكون عنوانها "الشتاء الكبير"، لا تمتد على جغرافية العالمين، خلافاً لمجمل أعمالي السردية والروائية السابقة، بل تنحصر في العالم الأول، عالم ما قبل الهجرة، وفي مكان واحد، محدَّد منه. اما العمل الشعري فهو استمرار لـ"كتاب الحالة"، وأرجّح ان يكون عنوانه "كتاب القمر الرائف".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها