الأربعاء 2023/03/22

آخر تحديث: 12:56 (بيروت)

ذكريات زمن الأسد (4): أوهام الشباب وفُرصه الثمينة

الأربعاء 2023/03/22
ذكريات زمن الأسد (4): أوهام الشباب وفُرصه الثمينة
عشوائيات دمشق
increase حجم الخط decrease
هنا حلقة رابعة استكمالاً لذاكرة الكاتب السورية.

بعد حصولي على الشهادة الثانوية العام 1991، تركت بلدتي الحفة وانتقلت إلى دمشق للدراسة في جامعتها. وصلت العاصمة التي كنت أزورها للمرة الأولى في حياتي، بحقيبة صغيرة وبطانية، والكثير من الآمال. وصلت "كراجات العباسيين"، وسألت عن وجهتي باسمها الغريب عليَّ آنذاك "الدويلعة" (محلة/حي)، حيث يسكن ابن عمي لي. انحشرت في سرفيس ذلك الزمان؛ سيارة "طوزتو" موديل الستينات، تراكتور ضعيتنا أكثر راحة منها. في الطريق بُهِرت بالشوارع والمباني الجميلة والملعب في حي العباسيين قبل أن تتغير المشاهدات مع انحراف السيارة عند "باب شرقي" نحو حي عرفتُ اسمه لاحقاً "الطبّالة" لأصل حسب الوصفة إلى "الدويلعة". نزلت من السيارة ونظرت حولي باستغراب، غبارٌ وزحامٌ ومنازل متلاصقة طويلة وقصيرة من "البلوك"! فقلت لنفسي: أهذه هي الشام؟ وكانت الصدمة الأولى! وبعدما كبرت، عرفت أنها الشام في "عهد الأسد الميمون" حيث صار 40% من سكان المدينة يقطنون العشوائيات كالدويلعة والطبالة وعش الورور وغيرها، كما باقي المدن السورية، بسبب القصور السياسي والإداري والفساد وإرضاء الأتباع، إضافة إلى إدارة العاصمة ممن ليسوا أهلاً لذلك مهنياً أو أخلاقياً.

وصلت حيث يجب أن أسكن مع ابن عمي، وهو "عنصر مخابرات" في جهاز أمن الدولة. كان السكن عبارة عن غرفة في دار عشوائية من البلوك تفتقر لأدنى مقومات السكن، وتسمية "وكر" أنسب لها من بيت. سبع غرف بمنافع مشتركة. وفي كل غرفة، مجموعة مستقلة من المستأجرين، كانوا جميعاً من العسكريين (أمن دولة، شرطة، أمن عسكري، أمن جنائي، جيش...الخ). عناصر عاديون وبعضهم ضباط صغار، من مناطق ريفية وطوائف مختلفة. كان سكان كل غرفة يطبخون ويأكلون ويشربون وينامون فيها. هذا كان أول عهدي بالشام، لتتبدّد الصورة الجميلة التي رسمتها من أحاديث الأقارب مع ابن عمي الذي كانوا يحسدونه على العيش في العاصمة والتطوّع في المخابرات، بينما هم يكدحون في الأرض، ويقولون له: "لكن، ما عاد تعجبك الضيعة، صرت شامي"، رغم أني لم أقابل في الحي الذي يسكنه أي شامي (دمشقي). كان ابن عمي يقضي إجازاته في القرية ويتجوّل واضعاً مسدسه على خصره مبتسماً، ولا يخبر أحداً عن حاله والوكر. مع ذلك، أعترف بفضل هذا المكان الذي كان ضرورياً لبدايتي الجديدة.

حملت خوفي معي إلى الشام، فسكنت في دار كلها مخابرات وعساكر، بل صرنا نتحادث ونتشارك الطعام والتسلية. وجدتهم أناساً مثلنا، ويختلفون كثيراً عن مخابرات مفرزة بلدتي الحفة المخيفين في الثمانينات. كنت أظن أن حال ومعيشة المخابرات أفضل، لكن تبين أنهم يعيشون مثلنا حياة البؤس. فسألت نفسي لماذا إذن يدافعون ويقتلون من أجل الأسد؟ الجواب طويل وأختصره بـ: بعضهم تعبئة طائفية، وبعضهم الآخر للحصول على الفتات أو السلطة أياً كان نوعها. الغريب أن هؤلاء ما زالوا مستمرين على حالهم، رغم نهر الدماء الذي سال في سورية، وقد علمتُ مؤخراً أن قريبي ذاك قد دفع ابنه للتطوع في المخابرات بعد تقاعده، رغم البؤس والفقر والإهانة والتمييز التي عاشها طوال خدمته في ذلك الجهاز!

انفتاح وتراجع الخوف.. إلى حين
أتذكر اليوم الأول لذهابي إلى كلية الآداب العام 1991. خرجت من الوكر في الدويلعة، ووقفت انتظر باص النقل الداخلي الأخضر القديم. تقاطرت الباصات خلف بعضها في وصولها، والناس مكدسون فيها، فحشرت نفسي في أحدها، كما حُشِرَ المهجرون قسرياً في هذه الباصات من المناطق الثائرة إلى شمال سوريا بعد الثورة السورية 2011. وصلت إلى كلية الآداب ونزلت من الباص كالديك المنتوف، وأنا أسبّ وألعن، واستمرت هذه المعاناة مع المواصلات حتى خروجي من الشام بعد الثورة السورية. ربع قرن لم يستطع، خلالها، هذا النظام القائم، توفير مواصلات مناسبة لسكان العاصمة! فأي فشل هذا؟

كنت، كما يجب أن يكون الشباب، متعطشاً وفضولياً لأعرف كل ما حولي. ورغم الخجل صارت لي شلّة، وكنا من جميع القوميات والطوائف السورية. ورغم حضور الطائفية، أصبحتُ في الجامعة أقل خوفاً وريبةً، ولم تعد الطائفة تعني لي الكثير في تحديد مَن أُصاحب أو أحبّ، ولم أشعر أني يجب أن أفعل الكثير حيال انتمائي الديني، وظننت أن زملاء الشلّة مثلي، ليخيب ظني سريعاً، واكتشف أني ذهبت بعيداً في انفتاحي، فعقدة الأقليات والطائفية كانت قوية عند الكثيرين. كيف لا، والأسد اعتمدها كأحد أساسات حكمه. فأدركت أن التخلّص منها صعب المنال، ولم يكن أمامنا سوى التعايش معها.



تركت السكن مع ابن عمي الذي تزوج وسكن مع زوجته في الغرفة نفسها، كما تزوج عنصر مخابرات آخر وسكن غرفة أخرى، لتتحول دار العزّابية إلى دار عائلات، ويصبح عندهم أولاد. الأحياء العشوائية تعج بمثل هذه الحالات، بل بعضها غالبية سكانه من هذا النموذج، وبعضهم تقاعد أو مات وورث أولاده الحال المزرية... والدفاع عن الأسد ونظامه.

بعدما غادرت الوكر، استأجرت غرفة في الحي نفسه مع زميل لي من آشوريي الجزيرة السورية الذين كنت أسمع بهم للمرة الأولى، وقد تقاسمنا همومنا وآمالنا وقصص عشقنا. ثم انتقلنا معاً إلى غرفة في "حي الإخلاص" العشوائي في بساتين المزة، حيث يكثر الطلاب نظراً لقربه من الجامعة. استأجرنا غرفةً في دار تحوي غرفاً أخرى يسكنها شبابٌ من السويداء ودرعا والرقة وإدلب والقامشلي، وهناك تعرفنا على بعضنا من قرب كسوريين.

في الجامعة.. حينما قرَّعتُ كردياً مسكيناً
أعتقد أنني كنت في السنوات الجامعية الأولى مواطناً صالحاً بمقاييس النظام. كنتُ شاباً معتداً بعروبته ومنتمياً إلى حزب البعث وباقي المنظمات (الخُنفشارية) التابعة له، لا يُلقي بالاً لثقافته الأصلية. أتذكر نفسي عندما وقفت في أحد مؤتمرات "الاتحاد الوطني لطلبة سورية" لأقول إنني شوفيني عربي، خلال مواجهتي مع طالب كردي مسكين كان يشرح حاله والكثير من أقرانه من المحرومين من الجنسية السورية مما يعرقل أمور حياتهم. صفق لي المسؤولون الحاضرون وشجعوني على الرد! وهناك زملاء أكراد ما زالوا يلومونني على تلك المداخلة! لكن ما ذنبي؟ فهذا ما كانت تُحشى به رؤوسنا في "دولة البعث" قبل أن ينفض العِلم الغبار عنها.

عِشت في الجامعة حياة حافلة محورها الأساسي الدراسة والأصدقاء والقراءة، بالإضافة إلى العمل في مطعم لأعيل نفسي، حيث تعرفت على الشوام الأصليين، ما ساعدني لاحقاً في تحليلاتي الاجتماعية والسياسية. كدت أنسى للحظات من هو الأسد عندما ذهبت إلى المكتبة الوطنية التي سُميت بإسمه، كالكثير من الأماكن. كيف لا ونحن نعيش في "سورية الأسد" "باني سورية الحديثة"، فقد كانت المكتبة من الأماكن القليلة التي كان أهل العلم يشعرون بالراحة فيها نوعاً ما. لكن سرعان ما عدت إلى رشدي مع أول مسيرة بمناسبة "الحركة التصحيحية"، حين أخرجونا من الجامعة طلاباً وأساتذة، حاملين الصور واللافتات نفسها التي كنا نحملها في بلدتي، واقتادونا كالقطيع لا نعرف وجهتنا، وإذ نحن في حي المالكي، ليطل علينا حافظ الأسد بشحمه ولحمه من شرفةٍ ويلوح لنا بطريقته المعهودة! جنّ جنوننا فدعسنا على بعضنا، وأُغمي على بعض الفتيات، وكان الطلاب كالسكارى، والأسد يبتسم! لا أعرف ما تفسير ذلك عند علماء النفس والاجتماع؟

كان تأثير الجامعة وأستاذتها فينا، كطلاب، محدوداً بسبب الرقابة الأمنية، وغياب أي هوامش من الحرية، حتى للأكاديميين. وعندما أصبحت أستاذاً في الجامعة عشت ما عاشه بعض أستاذتنا في الجامعة، وعرفت أنهم كانوا يهدئون اندفاعنا خوفاً علينا. كانت الرقابة الصارمة أحد أسباب تأخر نمو وعينا، واعتمادنا على جهودنا وتجربتنا الذاتية، ومن لم يفعل ظل على حاله.

اكتشفت السياسة بالتجربة في ظل التصحر السياسي في سوريا، على الرغم من أني كنت عضواً ككل الطلاب في حزب البعث، الذي أصبح وباقي الأحزاب السورية التابعة له من أدوات حافظ الأسد، وفقدت معناها بالنسبة لنا تماماً. وربما هذا كان سبب بحثنا عن زعامة في شخصيات غريبة عنا. فكم اضحك كلما ذكرني أحد الأصدقاء كيف كنت أعلق في غرفتي المتواضعة صور جمال عبد الناصر، وماوتسي تونغ، وعبد الكريم قاسم، وغيفارا، كما كنت أُقدر "الرفيق كيم إيل سونغ"(김일성) بعدما قرأت الكتيبات التي كانت توزعها سفارته مجاناً في معرض الزهور وتركز على عبادة الشخصية! وكأن النظام كان يسمح بها كي يتعلم السوريون عبادة شخصية الأسد. ربما كان ما مررت به حالة طبيعية، لأننا كنا نعيش في مزرعة الأسد ولا يصلنا إلا ما تسمح به أجهزته الأمنية التي احتكرت الإعلام والثقافة وأجهزتهما، ولا تسمح بدخول قصاصة لا تروق لها، قبل أن تكسر ثورة الاتصالات احتكارها.

أحلام الإنترنت و"الدّش"
في النصف الثاني من التسعينات، اقتنيت بالشراكة مع أخوتي، جهاز كمبيوتر، وكوني طالب دراسات عليا، اشتركت في خدمة الإنترنت التي كانت جديدة في سورية وغير متاحة للجميع. إذ اعتُبرت من إنجازات خليفة الأسد المأمول ابنه "باسل"، قبل أن يقضي في حادث سيارة ويتحول إلى "شهيد" توجب علينا تبجيله واعتباره مثلاً لنا كشباب، ليحل محله أخوه بشار في بطولة فيلم الإنجازات ووراثة سوريا، ويصبح "قائد مسيرة التطوير والتحديث" التي أوصلت السوريين إلى ما هم فيه الآن.

سُمح لنا في الدراسات العليا بالاطلاع على بعض الكتب المصنفة ممنوعة من أجل أبحاثنا، رغم أن بعضها لم يكن يحوي أحياناً سوى جملة واحدة لا تعجب النظام. كما تمكنا من قراءة غير الصحف السورية بعد السماح بدخول بعضها، كجريدة "الحياة" بعد انقطاع طويل، رغم وصولها أحياناً ناقصة صفحة، فكنا نعلم أنه شيء ما عن سورية فنسارع لطلبها من بيروت. كما دخل حياتنا "الدش" (الصحن اللاقط) فصرنا نشاهد بانبهار قناة الجزيرة الفضائية التي كانت قد انطلقت حديثاً مع ما حملته من انقلاب في الإعلام. كان كل ذلك محفزاً للتفكير والبحث والمعرفة، فصرت وبعض الأصدقاء المقربين نناقش حال سورية والسبيل للخروج من النفق المظلم، وما زلت أذكر كيف كنت أجلس مع أحمد بكرو -حالياً من ثوار إدلب المدنيين- فوق سطح الدار كي لا يسمعنا أحد.

في أواخر التسعينات، أخذت جرعة تفاؤل كبيرة عندما اكشتفت أن الروح لم تنضب من جسد السوريين وخصوصاً الشباب، فكم كنت مذهولاً وسعيداً عندما غص المدرج الكبير في كليات الآداب وما حوله بالمئات لحضور الأسابيع الثقافية التي أقيمت في الجامعة، لا سيما قسم الفلسفة، بحضور بعض أشهر المثقفين العرب. علمت في ما بعد أن النظام وقتها سمح بها للإيحاء بأنه يتغير، لتحسين صورته، قبل أن يعود ويوقفها.

مع اقتراب الألفية الثانية من نهايتها، كانت الدنيا تتغير من حولنا، وكنا نكبر ونتغير وإن لم تظهر تعبيرات ذلك في حينها. أما نظامنا العتيد فكان على حاله، وبعُدّته القديمة. فقد كان الأسد لا يحب التغيير، وترك غالباً أتباعه الذين يثق فيهم في مناصبهم المزمنة، وبعضهم كانوا مجرد واجهات لإظهار مشاركة كل المكونات السورية في السلطة. لكننا كنا قد مللننا أشكالهم وأفعالهم وكلامهم الفارغ.

ورغم أن الانتخابات لم تكن تثير انتباهنا لمعرفتنا سلفاً بنتائجها، كما كنا نضيق ذرعاً بالمظاهر الاحتفالية المصاحبة لها، إلا أننا لاحظنا في انتخابات مجلس الشعب العام 1998 في مدينة دمشق، شيئاً لم نعهده من قبل. بيان وبرنامج انتخابي واضح معلق على أحد الجدران، وحمل اسم رياض سيف. فقلت في نفسي: هل تغير شيء؟ وهل يجب أن ننتظر خيراً من تلك الانتخابات؟ ولاحقاً عرفت أن رياض سيف دخل مجلس الشعب وحاول أن يعارض من داخله وتحت سقف النظام، لكنه دفع الثمن غالياً لتصديقه بإمكانية العمل السياسي تحت مظلة النظام. أما الانتخابات، "العرس الديموقراطي" كما سمته "وسائل الإعلام الوطنية" آنذاك، فقد كانت غايتها تجميل صورة النظام في الخارج. فلم يتغير شيء، إذ فازت لائحة الجبهة الوطنية التقدمية، أما المستقلون الفائزون فقد كانوا من شركاء النظام الجدد في مرحلة "الانفتاح الاقتصادي". كانت خيبة كبيرة. لا تغيير، وأيضاً سيطرة على آليات التغيير السلمي للسلطة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها