الخميس 2023/01/26

آخر تحديث: 13:26 (بيروت)

ذاكرة الثمانينات الأسدية:محاربو الامبريالية في لبنان...وفي سوريا لأجل الخبز(2)

الخميس 2023/01/26
ذاكرة الثمانينات الأسدية:محاربو الامبريالية في لبنان...وفي سوريا لأجل الخبز(2)
طوابير السكّر والأرز الطوابير، لأننا كنا نزج كل طاقات سوريا في المعركة ضد "الإمبريالية والاستعمار والصهيونية"
increase حجم الخط decrease
بعد حلقة أولى بعنوان "ذكريات من زمن الأسد..طفولة على وقع الخوف والبؤس والطائفية(1)"، هنا نص ثانٍ استكمالاً لذاكرة الكاتب السورية..

الأسد قبل الثمانينات، غير ما بعدها. ففي بدايات حكمه لم يكن قد وصل إلى ما وصل إليه بعد العام 1980. والناس، وربما هو أيضاً، كانوا ما زالوا ينظرون إليه كإنسان يشغل منصب رئيس الجمهورية، قبل أن يصبح في نظر أتباعه شبه إله، وفي نظر غالبية السوريين وحشاً مخيفاً. وربما هذا ما دفع الباحث الفرنسي ميشيل سورا في الثمانينات إلى أن يضع عنواناً لبحثه "سوريا الدولة المتوحشة"، قبل أن يدفع حياته ثمناً لذلك على أيدي شركاء الأسد في "المقاومة والممانعة".

عندما كبرتُ، فهمتُ لماذا لا أتذكر من طفولتي ويفاعتي في الثمانينات شيئاً أكثر من الخوف والشقاء. فقد تبين أنهما أمران لازما غالبية السوريين طوال عهد الأسد. الشقاء بسبب الفقر وقلة كل شيء آنذاك، أما الخوف فلا داعي لشرحه لأن السوريين كلهم يعرفونه بأشكاله وألوانه.

"بيجو ستيشن"
كطفل، أتذكّر حياتي وأقراني في بلدتي. الأهل يطلبون منك الصمت عن كل شيء خوفاً من "المخابرات"، ونحن لم نكن نفهم سبباً لذلك، لكن أهلنا كانوا قد خبروا رعب الثمانينات. أتذكر جيداً عندما كانت أمي ترسلني للسوق لشراء شيء ما، كان يجب علي أن أمُرّ أمام مفرزة المخابرات التي تقف أمامها سيارة "البيجو ستيشن" سيئة السمعة. لكن بسبب الخوف، الذي أصبح جزءاً منا، كنت أذهب من طريق طويلة تلافياً للمرور قرب المفرزة التي يجلس أمامها عناصرها بوجوههم المتجهمة كصورة سيدهم الأسد المعلّقة خلفهم. كانت المفرزة مركز السلطة والنفوذ والخوف في بلدتنا ومثيلاتها. عندما كبرتُ علمتُ أنها مفرزة أمن الدولة. طبعاً كانت هناك تشكيلة أخرى من المفارز للأمن العسكري والسياسي... بينما لم تكن هناك سوى مؤسسة استهلاكية واحدة كان نقف أمامها بالطوابير في "العهد الميمون" للحصول على السكّر والأرزّ والزيت وبعض الشاي. أما لماذا هذه الطوابير، فلأننا كنا نزج كل طاقات سوريا في المعركة ضد "الإمبريالية والاستعمار والصهيونية والرجعية وعملائها عصابة الإخوان المسلمين العميلة...الخ"، هكذا كانوا يقولون لنا. وكان جيشنا في لبنان يحارب ويردُّ المؤامرة على طريق تحرير فلسطين، قبل أن يمرّ ذلك الطريق، في زمن الأسد الابن، من حلب، كما قال حلفاؤه في "المقاومة والممانعة". لكني عندما كبرت وبحثت، عرفت أن الأسد ساهم في شرذمة الفلسطينيين وسحقهم وطردهم من لبنان، بل وفي إبادتهم.

باب خشبي (مُعفّش) من لبنان
على ذِكر لبنان، عندما كنت صغيراً أتذكر أن بعض أقاربي ذهبوا إلى الخدمة الإلزامية واستمروا فيها لسنوات طويلة، وكانت خدمتهم في لبنان الذي طالما حدثنا جدّي عنه وعن جماله وكيف كان يعمل هو ووالدي فيه. أتذكر أن أحد عساكر القرية عاد من لبنان ومعه باب خشبي جميل ركّبه لداره، فكان مختلفاً عن كل أبواب القرية، ولجودته ظل ربما حتى اليوم. عندما كبرتُ عرفت سر ذلك الباب بعدما عرفت أفعال المفترض أنه جيشنا في لبنان. لكني لم أفهم إحساس اللبنانيين جيداً، حتى عَفَّشَ ضباط وجنود هذا الجيش بيوتنا بعد العام 2011، وسرقوا حتى الأبواب والشبابيك، وبالوا وتغوطوا على كتبي وصوري العائلية بالمعنى الحرفي للكلمة. وعندما انتقلت للسكن في لبنان، حدثني جاري اللبناني عن أفعال ضباط وجيش الأسد خلال سيطرته على لبنان، ليتبين أن ما فعلوه بنا بعد 2011 عادةٌ أصيلةٌ في جيش الأسد.

أتذكر من الثمانينات كيف كان علينا أن نحارب كالبقية من أجل الحصول على جرّة الغاز أو المازوت، كاليوم. والأحلى يوم توزيع البندورة والبطاطا في المؤسسة. أما جلب الخبز من الفرن، فتلك لوحدها قصة تجعلك تكره نفسك. لم نكن نعرف سبباً لهذه المعاناة، بل كنا نعتقد أنها عقوبة لنا لأننا كنا "نقاوم ونمانع"، كما كان يقول لنا الرفاق في خطاباتهم خلال المسيرات التي كنا نخرج فيها احتفالاً بـ"المناسبات الوطنية"، وأهمها "الحركة التصحيحية المجيدة" التي لم أفهم معناها طوال حياتي، فقط كنا نعلم أن "السيد الرئيس" صحح مسار الحزب. لم أفهم معنى ذلك حتى بدأت البحث في التاريخ ليتبين أنه يوم انقلب الأسد على شركائه الذين دبر معهم المكائد والانقلابات على من قبلهم، ومن وقتها صار المتحكم برقابنا وبحياتنا، كما حاول السيطرة على عقولنا. كنا نخرج في المَسيرات ونتشاجر على حمل صورة "القائد المفدى" أو لافتة كُتبت فيها جملة قالها. وكنا ندرس ونحفظ ونُمتَحن بأقواله و"فِكره" لإثبات وطنيتنا، وإن كان ذلك غير مجدٍ لأهل بلدتنا المغضوب عليهم والمصنفين طائفياً وبالتالي سياسياً ضد الأسد.

كنت وأقراني نخاف من دون أن نقرأ ما كتبه ميشيل سورا، أو يتجرأ أهلنا على إخبارنا بشيء خشية أن يفلت لساننا بكلمة هنا أو هناك. لكني عندما كبِرت وبحثت، علمتُ لماذا كان يُطلب منا الصمت، ولماذا كنت أخاف المرور أمام المفرزة، كما علمت لماذا كنا ننظر بحزن لبعض زملائنا في الصف الذين "راح" آباؤهم وإخوتهم. هذه كانت حدود معرفتنا، "راحوا". لكن إلى أين وكيف؟ لا نعرف. والأغرب أننا لم نسأل! بعد العام 2011 خبِرت شعور أولئك الصامتين المقهورين، ويا ليتني ما خبِرت ذلك في أحبائي، كباقي السوريين، وشاهدت أمي تذبل أمامي حزناً على أخي كمئات آلاف الأمهات. شاهدت الأيتام وتساءلت: هل سيكررون، عندما يكبرون، ما فعله أيتام الثمانينات الذين كانوا أول الملتحقين بالثورة العام 2011  ثأراً لآبائهم وقهرهم الطويل؟ وكأن النظام أدرك ذلك فصار يقتل الأطفال حتى بالبراميل والأسلحة الكيماوية.


(ميشيل سورا)

كانت البلدة تعيش الخوف مما لحقها من الأسد وأجهزته. وكان يقال: "عنصر مخابرات واحد يستطيع أن يوقف البلدة على رِجل واحدة". عندما كبرت عرفت مقدار القهر والذل الذي شعر به أهل البلدة، وهم الذين حاربوا الجيش الفرنسي بعنادٍ دفاعاً عن أرضهم وكرامتهم، كغيرهم من المناطق السورية، وفي زمن الأسد صار يتحكم برقابهم السفلة. هذه البلدة نموذج مصغر لما حدثَ وما زال يحدث في سوريا.

لا قانون.. ولا حتى مثل المافيا
عندما كبرت، علمتُ أنهم كانوا يعتقلون ويقتلون كما يشاؤون بموجب قانون الطورائ الذي لم أفهم ما هو حتى وأنا كبير، وبماذا يختلف عن غيره، لأني ببساطة لم أعش إلا في ظل ذلك القانون الذي بدأ تطبيقه من قبل أن أولد. وعندما اطّلعتُ على ذلك القانون، عرفتُ أن الأسد ومخابراته لم يطبقوا حتى قانون طوارئهم، وأن حياة الإنسان منا لا تساوي عندهم ليرة سورية واحدة. وهذا ما جعل بشار الأسد يلغي ببساطة هذا القانون بعد الثورة السورية، فهؤلاء لا تعني لهم القوانين شيئاً. أي بلاءٍ أصابنا نحن السوريين! فحتى عصابات المافيا تملك قوانينها.

عندما كنت صغيراً، وحتى عصر الإنترنت، لم أكن قد سمعت بحقوق الإنسان، وأن هناك جمعيات ودولاً ديموقراطية (غربية) تسعى للحفاظ عليها. فسألتُ نفسي: لماذا تركنا هؤلاء بين براثن الأسد في الثمانينات من دون أن يحركوا ساكناً؟ لأجد الجواب عند بعض الباحثين الغربيين، مثل ميشيل سورا، الذي تحدث بمرارة عن نفاق الدول التي سكتت عن تلك الموبقات لأنها كانت ترى أن الأسد يقمع تمرداً إسلامياً، وهي لا تريد تصاعد المدّ الإسلامي. كانت الصحافة الغربية شبه صامتة عما يجري في سوريا، حتى أنها لم تُغطِّ مجزرة حماه سوى بخبر صغير في إحدى الصفحات الداخلية، كصحيفة "لوموند" الفرنسية، رغم أن السفارات الغربية كانت ترسل تقارير مفصلة عما كان يجري.

في المدرسة الثانوية، تابَعنا حياتنا الرتيبة واستمرّينا بالاحتفال والدبك والخوف. لا جديد، فالحياة رتيبة والوجوه الكالحة نفسها. كان كل شيء مفلتراً ومكرراً؛ الكتب في مكتبة المدرسة والمركز الثقافي، الصحف، الراديو والتلفاز.

وبعدما بحثتُ، علِمتُ أن الأسد في الثمانينات، وبحجة القضاء على الإخوان المسلمين، قضى على أي معارضة ضده، ولم يعد هناك سواه، وتحول إلى ما يشبه الآلهة، حتى أنهم أضافوا عبارة جديدة لشعار البعث "أمة عربية واحدة/ ذات رسالة خالدة" الذي كنا نردده في المدرسة صباحاً، فأصبحنا نردد أيضاً "قائدنا إلى الأبد/ الأمين حافظ الأسد".

في الثانوية تعرفنا من قرب على الآخر، زملائنا العلويين، ورغم أننا عشنا ولعبنا وتجاورنا مع مسيحيي البلدة طوال حياتنا، فقد بقي الخوري "أبو عبد الله نصير" جارنا لثلاثين عاماً. كانت عقوبة الحديث عن الطائفية صارمة. لكن بينما كان النظام يمنع الحديث عن الطائفية، كان يمارسها جهاراً، وكانت حاضرة في تفاصيل حياتنا، فقد كان الطرف الأقوى يظهرها بطرقٍ فجةٍ، مع أننا كنا جميعاً نعيش حيوات متشابهة سِمتها الأساسية البؤس. كانت النتيجة، حالة من الانقسام غير المعلن منعت تطوير الصلات والعلاقات التي كانت موجودة دائماً وخبرتها من خلال أبي وأقاربي وعلاقاتهم وسهراتهم مع أصدقائهم العلويين في القرى المجاورة. لكن ما عرفته في الثمانينات أن الطرفين أصبحا يخشيان بعضهما بعضاً، مع شعور العلويين بالتفوق بعد "انتصار الثمانينات". وكان ذلك سبباً لصِدامات بين الأصغر سناً، وبأشكال مختلفة، تحول أحدها في مدرستنا إلى شبه معركة بالأيدي والعصي والحجارة شارك فيها عشرات الطلاب من الطرفين واستدعت تدخل المخابرات. وفي اليوم التالي، أوقف مدير المدرسة الطالبَين -وهما سنّي وعلوي- الأساسيين في المعركة في الساحة، وجعل طلاب المدرسة يبصقون عليهما. أحد هؤلاء صار لاحقاً شبيحاً من الشبيحة الأصليين (عصابات آل الأسد في اللاذقية العاملين في التهريب وكل ممنوع)، قبل أن تشتهر هذه التسمية بعد انطلاق الثورة في 2011. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها