الجمعة 2023/01/20

آخر تحديث: 12:14 (بيروت)

ذكريات من زمن الأسد..طفولة على وقع الخوف والبؤس والطائفية(1)

الجمعة 2023/01/20
ذكريات من زمن الأسد..طفولة على وقع الخوف والبؤس والطائفية(1)
من الانتداب إلى انقلاب "البعث".. هل كانت الطائفية بين السوريين بنسبة 10% مما أصبحت في عهده؟ (غيتي)
increase حجم الخط decrease
علاقتنا، نحن السوريين، طويلة مع حافظ الأسد، تمتد بالبعض منا منذ الولادة، والبعض الآخر طوال شبابهم وكهولتهم. عندما مات، في 10 حزيران 2000، كنت طالب دراسات عليا في قسم التاريخ في جامعة دمشق. وقبلها كنت طالباً في المرحلة الجامعية الأولى وكان الأسد رئيساً.

كما كان كذلك في المرحلة الثانوية والإعدادية والابتدائية والروضة. حتى حين وُلدت، أواخر العام 1971، كان رئيساً. ولم أسمع أو أقرأ في كتبنا المدرسية والجامعية أو الصحف اسم حاكم لسورية الحديثة غيره. لذلك لا أعرف، كالكثير من أبناء جيلي، غير "عهده الميمون" الذي ورّثه لأبنه الذي لم يستطع فيه مئات آلاف السوريون عيش طفولتهم وشبابهم ورجولتهم بعدما أفناهم مع بيوتهم وحيواناتهم وأشجارهم بما يشبه الكوراث الطبيعية.

يمرّ في حياة الإنسان الكثير من الحوادث والقضايا التي تثير في نفسه أسئلة قد لا يجد لها جواباً في وقتها، بسبب صغر سنه أو مقدار علمه وتجربته. والأهم عدم توافر الظروف المناسبة؛ كالخوف الذي يمنع حتى العارفين، من الإجابة، كما يمنع المثقفين والصحافيين من الكتابة، وإن تجرأوا وكتبوا فمن الصعب أن يُنشر، وأن نُشر كان لا يصل إلى السوريين.

هكذا كان حالنا في سورية تحت حكم الأسد الأب قبل ثورة الاتصالات، وفي عهد ابنه بعد تلك الثورة. أسئلة كثيرةٌ ظلت تجول في الأذهان تنتظر الجواب. لكن عندما يُقدّر للمرء تجاوز الأسباب المانعة، فيصبح الوصول للمعلومات سهلاً، ويصبح المرءُ في عمرٍ يسمح له بالتأمل والتفكير، ويتحرر مكانياً وذهنياً من الخوف؛ عندها يجد نفسه يعيد النظر بما مرَّ به ويحلله. وإذا أضفنا إلى ذلك توافر التخصص وتراكم التجربة فكل ذلك يساعد في الإجابة عن تلك الاسئلة وتحليلها تحليلاً يستند إلى الأصول العلمية، وتسمية الأشياء بمسمياتها وإيضاحها بعيداً عن الحرج والخوف.



في نصف القرن الأخير، مرَّ أهل سورية بشيبهم وشبابهم وأطفالهم، بحوداث وتجارب قاسية أو كانوا شهوداً عليها، خلفت أسئلة كثيرة بقيت تجول في خواطرهم من دون أن يتجرأوا على البوح بها. لأننا إذا فكرنا بوضع كلمات مفتاحية لزمن حافظ الأسد الطويل، وابنه من بعده، فهناك كلمات ثابتة (الخوف والريبة والبؤس والطائفية) عند جميع السوريين حتى مناصري نظام الأسد وحاضنته الذين زرع في نفوسهم الريبة والخوف من الآخر شريكهم في البلد بعدما اجتزأ من التاريخ ما يدعم غايته في تنمية الخوف الذي استثمر فيه لبقائه قابضاً على البلد حتى انتهت إلى الحال الذي هي عليه الآن.

الطفولة- السبعينات
في السبعينات كنت طفلاً لا يعي كثيراً ما يجري حوله. كنت أسكن قرية صغيرة في ريف "منطقة الحفة" في محافظة اللاذقية. ولمن لا يعرف هذه المنطقة فقد كان اسمها ربما حتى الخمسينات "قضاء جبل صهيون" (لا علاقة للاسم بالصهيونية). وهذه المنطقة تاريخياً مختلطة، مركزها (بلدة الحفة) سنّي مع أقلية مسيحية، ومحيطها غالبه علوي مع قرى مرشدية بعد انشقاق هذه المجموعة عن العلويين. وكانت هناك قرى مختلطة كثيرة، قل عددها في عهد الأسد مع ازدياد التوجس والريبة بدلاً من "اللُّحمة الوطنية" التي كانوا يصدعون رؤوس السوريين بها ليل نهار. وعلى ما يبدو كانت قريتي من القرى المختلطة (سنّة وعلوية) مع غالبية سنّية، فقد عايشت فيها آخر عائلة علوية (بيت بلوط) كانت في القرية عند انتقال عائلتي الصغيرة العام 1980 إلى مركز المنطقة لنسكن في بيت من غرفة واحدة. كان حال القرية في ذلك الزمن كالكثير من قرى سورية، بلا شبكات ماء أو كهرباء أو هاتف أو طريق مُعبّد ولا حتى دكان، وفيها مدرسة ابتدائية من غرفتين بمعلّمَين.

كان أهل القرية يعملون في الزراعة عدا ما لا يتجاوز أصابع اليدين ممن تطوعوا في الجيش أو في وظائف حكومية بسيطة. كانوا جميعاً، لفترات مختلفة استمرت حتى الثمانينات، فلاحين مرابعين في أراضٍ يملكها مُلّاك سنّة يعيشون خارج القرية. ولطالما سمعنا الجدّات في القرية يتحدثن عن صعوبات الحياة في الماضي، وظلم واستغلال المُلّاك لهم كمرابعين. ولم يكن الحال أفضل في القرى العلوية التي مُلّاكها من العائلات العلوية الكبيرة. لكن، رغم حالة البؤس العامة، لا نستطيع القول أن أولئك الفلاحين البؤساء كانوا لا يشعرون بالفروق الطائفية، فقد كان الفلاح السنّي يشعر بنوع من الأفضلية لأن المالك سنّي في الغالب، لقد كانت فروقاً نفسيةً وربما تعدّتها إلى الحصول على الفتات أحياناً، وهذه الفروق لم تكن حاجزاً في ما بينهم، فكانت لهم أعمالهم وأفراحهم وأحزانهم المشتركة، كما روى لي أبي، وعاينت آثار تلك العلاقات الطيبة عندما كان والدي يتلقي بأحد أصحابه أو جيرانه القدامي في الأرض، لأنه عندما أصبحت واعياً لما يدور حولي، بدايات الثمانيات، كانت تلك العلاقات قد خفتت وحل محلها التوجس والريبة.

ذلك البؤس المشترك هو ما دفع الفلاحين إلى تجاوز خلفياتهم الطائفية والانتساب إلى أحزاب مثل "البعث"، تركز على حقوق الطبقات المسحوقة قبل أن يستولي عليه الأسد وجماعته ويصبح أحد أدوات سيطرتهم، مما سيفرغه من مضمونه تماماً. ففي "شعبة الحفة لحزب البعث" والفرقة الحزبية التي تتبع لها قريتنا مع قرى علوية عديدة، صار الرفاق (العلويون) ينظرون إلى رفاقهم (السُنّة) كأعداء ربما ينقضون عليهم في أي وقت وكأنهم ليسوا رفاق الحزب.

حالة عدم المساواة التي كانت عامةً مع فروق بسيطة في المراحل التاريخية في ما قبل الدولة الوطنية، وفي بدايتها استغلها نظام الأسد وسوّقها بين العلويين على أنها ظلمٌ وقع عليهم فقط. وأنهم، إن فقدوا السلطة التي يمثلها الأسد، "عادوا مرابعين عند السنّة"، وتجاهل النظام في روايته غير المعلنة، أن غالبية فلاحي سوريا كانوا من السنّة وأنهم كانوا مُرابعين، بل كان بعضهم يعمل في الأرض كالأقنان في بعض المناطق السورية.



ولا أدري، ما كان ليجيب حافظ الأسد إذا سألناه: هل كان آباء الاستقلال وساسة سورية تحت الانتداب الفرنسي وما بعد الاستقلال، وصولاً إلى انقلاب "البعث" في آذار 1963، يميزون ضد غيرهم وتجاه العلويين تحديداً؟ وإذا كانوا كذلك، فكيف صار الأسد وزملاؤه وغيرهم من أبناء الأقليات ضباطاً في الجيش ووصلوا إلى أعلى المناصب فيه؟ هل كانت "الكتلة الوطنية" أو "حزب الشعب" وغيرها، أحزاباً إسلامية- طائفية في العلن أو السر؟ وحتى حزب البعث، قبل أن يستولي عليه الأسد وجماعته؟ وهل كان شكري القوتلي أو هاشم الأتاسي وحتى أمين الحافظ أو نور الدين الأتاسي، إسلاميين- طائفيين؟ هل كانت الطائفية تنتشر بين أفراد الشعب السوري بنسبة عشرة بالمئة مما أصبحت في عهده؟ لو كان ذلك صحيحاً لما فاز في انتخابات برلمان 1954 الحرة، 20 نائباً لحزب البعث، بينما فاز الإخوان المسلمون بأربعة نواب فقط.

اجتزاء أحداث تاريخية من سياقها التاريخي الذي يسمها بسماته، وتحويلها إلى مظلمة تاريخية، وتعميمها على المراحل التاريخية السابقة كافة؛ تشويه للحقائق. وللتأكد من ذلك ما علينا سوى العودة إلى الأرشيفات، ومنها العثماني، وإن تعذر ذلك فهناك دراسات أكاديمية رزينة اعتمدت على المصادر الأرشيفية الأصلية المتنوعة، كدراسات الباحث الألماني شتيفان وينتر، الذي ركز في أبحاثه على دراسة الأقليات، ومنهم العلويون، ووجد أن ما يشاع عن المظلمة التاريخية أمرٌ مبالغ فيه إلى حد كبير، وأن ما جرى معهم لا يخرج عن السياق التاريخي الذي وجدوا فيه. والمفجع أن أصحاب تلك المظلمة التاريخية صنعوا بحجتها مظالم أكبر مسجلة في فيديوهات وصوتيات، وأدخلوا سورية في نفق من الصعب الخروج منه إلا بمحاسبة تاريخية حتى لا نبقى أسرى الثأر والانتقام.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها