الأربعاء 2023/03/01

آخر تحديث: 11:47 (بيروت)

ذكريات الأسد: التجارب الأولى للتدين برعاية النظام ومخابراته(3)

الأربعاء 2023/03/01
ذكريات الأسد: التجارب الأولى للتدين برعاية النظام ومخابراته(3)
حلقة دراويش داخل الجامع الأموي في رمضان العام 2017 (غيتي)
increase حجم الخط decrease

ما زالت عالقة في الذهن تحذيرات الأهل في سوريا الثمانينات من القرن الماضي، من أي ممارسة ظاهرة للتدين الإسلامي، كالصلاة أو إظهار ما يمكن أن يعتبر من مظاهره كاللحية حتى لمن يطلقها كموضة، فذلك يمكن أن يُعتبر تُهمةً قد تودي بصاحبها خلف الشمس حتى ولو لم تكن له علاقة بالسياسية. فهذه الأمور على بساطتها كان من الممكن أن تعتبر دليلاً لاتهام الشخص بأنه من "الأخوان المسلمين" مع ما تعنيه تلك التهمة من رعب في الثمانينات، لذا اهتم "العواينية والفسافيس" (المُخبرون) بمراقبة هكذا أمور، ما أودى بالعديد من شباب ورجال ممن لا علاقة لهم بالسياسة في بلدتنا (الحفة، التابعة لمحافظة اللاذقية). في ذلك الجو، خضتُ تجربتي الأولى مع التدين مع عدد من شباب البلدة.

المشايخ الثلاثة
كنتُ طالباً في آخر المرحلة الثانوية، عندما دعاني أحد زملائنا في المدرسة، مع آخرين، إلى بيت جدّه لحضور جلسة مع "شيوخ تقاة" جاؤوا من خارج بلدتنا، كما قال. ذهبت بدافع الفضول، رغم أني لا أذكر السبب، فالدين وقتها لم يكن قد أخذ بعد مكانه في نفوسنا، وإن كان حاضراً في ثقافتنا وعاداتنا. ذهبت مساءً مع ابن الجيران للقاء المشايخ الذين كانوا ثلاثة، أعمارهم متوسطة، وأحدهم شابٌ. فوجئت كزملائي بلحاهم الطويلة جداً، وأول سؤال قفز في أذهاننا: كيف يربّون هذه الذقون؟ فهذه كانت قد صارت من المحظورات في بلدتنا، ولطالما سمعت أبي وأعمامي ينبهون شباب العائلة إلى عدم إطالة اللحية ولو قليلاً. حتى أني لا أذكر أحداً بلحية في بلدة الحفة سوى "الشيخ إبراهيم الشعار"، والد اللواء محمد الشعار، ضابط المخابرات العسكرية الذي شارك غازي كنعان في الكثير من الانتهاكات في لبنان، كمجزرة باب التبانة في طرابلس العام 1986 عندما كان مسؤولاً عن الأمن في طرابلس، فأطلق عليه لقب "سفاح طرابلس". كما تولى العديد من المناصب الأمنية، منها رئيس فرع الأمن العسكري في حلب، وقائد الشرطة العسكرية، ثم وزيراً لداخلية النظام حتى العام 2018.

بالعودة إلى الاجتماع بالمشايخ، جلسنا في غرفة غصت بأكثر من عشرين شخصاً كانوا من الطلاب وبعض بسطاء البلدة، وعلمت في ما بعد أننا جميعاً لم يكن لنا سابق تجربة في التدين، كما أننا –الطلاب- جئنا إلى ذلك اللقاء من دون إذن من أهلنا. تحدث أحد المشايخ بينما بقي الآخران صامتَين مُغمضي العيون طوال الوقت، فهمستُ في أُذن زميلنا صاحب الدعوة: "لماذا هم هكذا؟"، فقال: "من شدة الإيمان". بدأ الشيخ يحدثنا عن شيخهم "الشيخ عز الدين"، وأخبرنا أن عنده معهداً شرعياً يعلّم فيه الناس الدين، ويقدم الطعام للطلاب والمساكين مجاناً، وعنده فرنٌ يوزع الخبز "ببلاش". قلت في نفسي: يا سلام، خبز بسهولة، فقد كان جلبُ الخبز بالنسبة إلينا عقدة، بسبب الاستيقاظ يومياً من الفجر والانتظار الطويل أمام الفرن.

سرد لنا الشيخ المُريد قصصاً وحوادث مرت بشيخه الذي لا نعرفه، لنأخذ العِبَر منها ونتعلم. فقاطعتُه، وكنت لا أعرف آداب تلك الجلسات، وسألته: لماذا تقول فعل الشيخ كذا؟ وقال الشيخ كذا؟ ألا يجب أن تقول قال رسول الله، فعل رسول الله؟ فرد عليَّ بإجابة لم تقنعني: أنتم جدد في الدين وصعبٌ عليكم أن تفهموا عن رسول الله، الآن إفهموا ما أقوله عن الشيخ.

وأثناء الجلسة، حان وقت آذان العِشاء، فوقف أحدهم عند باب البيت في الشارع، ورفع الآذان وسط ذهول الحاضرين. ثم قال: من ليس على وضوء، لقد وصلنا خرطوم ماء أمام البيت. بعض الحاضرين خافوا من الوضوء في الشارع وتركوا المجلس، وبعضهم صلّى من دون وضوء. فالناس في بلدتنا بعد نكبات الثمانينات كانوا يخافون من مجرد الصلاة علناً أو الذهاب إلى المساجد. فماذا يفعل هؤلاء؟! لقد كان الحاضرون كلهم من الأغرار، فلو كان أحدنا يفكر، لما ذهب إلى ذلك اللقاء. لذلك عندما عدت إلى البيت، استقبلني أبي بغضبٍ شديدِ، وطلب مني أن ابتعد عنهم، وإذا ما أردت الصلاة ففي البيت. ولا أدري كيف علم بأمري، لكن بلدتنا صغيرة لا سرّ فيها.



وبعد مدة، أخبرنا زميلنا "تبع المشايخ" أنهم، أي المشايخ يُحضرون لرحلة لزيارة ديار شيخهم الكبير في "تل معروف"، التي لم نكن قد سمعنا بها من قبل، وأن هناك باصاً لنقلنا مجاناً وأن الطعام كثيرٌ ومجانيٌ عند الشيخ. تحمست مع جاري للذهاب في هذه المغامرة، لكن الأهل منعونا خوفاً من عواقب هكذا رحلة عند المخابرات، بالإضافة إلى أنهم لا يعرفون من يكون هؤلاء المشايخ. الحاصل، ذهب في هذه المغامرة العديد من أبناء البلدة وبعضهم طلاب في مدرستنا، وبعد عودتهم علمنا أن "مفرزة المخابرات" استدعتهم، فقلنا "راحوا الشباب"، قياساً على من أخذوهم في بداية الثمانينات وبعضهم كانوا طلاباً في المرحلة الثانوية وغابت أخبارهم نهائياً. لكننا فوجئنا أنهم تركوهم بعد مدة قصيرة. حينها لم نفهم ما كان يجري، فقد كان أمراً مستغرباً! "الشغلة فيها دِين ولحى.. وتركوهم ولم يختفوا كغيرهم؟".

الصوفية
عندما كبرتُ وبحثتُ، علِمت أنه في سوريا الأسد لا يمكن لأحد أن يقوم بأي نشاطات أو تجمعات عامة، سواء كانت دينية أو غيرها من دون علم "المخابرات" التي كانت تراقب كل شيء، وتتدخل في ما هو أبسط من ذلك بكثير. حتى أنه قبل الثورة السورية 2011، قام بعض الشباب المثقف في بلدة داريا بعمل تطوعي في تنظيف بعض شوارع مدينتهم، فتم استدعاؤهم من المخابرات. وفي صيف العام نفسه، عندما عمِلت مع والدي في سوق الخضار باللاذقية، شاهدت الشيخ الذي تحدث إلينا بلحيته الطويلة، وكان يعمل بائعاً في دكان مجاور. علمتُ أنه كان قبل أن "يهديه الله" لاعب كرة وصاحب مشاكل، كما شاهدت سيارات "البيجو ستيشن" دائمة التردد عليه.

وعندما كتبت أطروحتي للماجستير عن الجزيرة السورية، عرفت من هو الشيخ الذي جاء مريدوه إلى بلدتنا للدعوة لطريقته. أنه عز الدين الخزنوي، شيخ الطريقة الصوفية الخزنوية المتفرعة من النقشبندية، التي ورث مشيختها عن والده الشيخ أحمد الخزنوي. ومركزها الجزيرة السورية (محافظة الحسكة) في قرية خزنة، وفي قرية تل معروف يوجد معهد شرعي كبير يتبع لهم. والطريقة منتشرة في سوريا وخصوصاً في الجزيرة، ولها الكثير من المريدين في تركيا.

كما علمت، أن نظام الأسد، في سياق سيطرته على المجتمع وصراعه مع جماعة الأخوان المسلمين في الثمانينات وما بعدها، استغل الدين والتديّن لتحقيق أهدافه، فقد وجد أن الإسلام الذي تدعو إليه بعض الطرق الصوفية مناسبٌ له. واستغلت أجهزة النظام الأمنية بعض الطرق والدعاة كفخ للإيقاع بالمتدينين أو مَن يُبدون رغبة في التدين، خصوصاً الشباب، فهؤلاء يقومون بإثارة حماسة أقرانهم فتكتشفهم الأجهزة الأمنية وتعتقلهم خشية تحولهم إلى الإسلام السياسي مستقبلاً. حتى أنه في بلدتنا، وُزِعت أشرطة كاسيت تحتوي خُطب الشيخ الحلبي أحمد حسون، وجرت اعتقالات على خلفيتها لشباب، وذلك قبل أن تظهر العلاقة القوية بين حسون ونظام الأسد الذي منحه المناصب الدينية حتى أصبح مفتياً عاماً لسوريا العام 2004 إلى حين إقالته العام 2021 وإلغاء منصب مفتي سوريا بعدما عاث فيه حسون فساداً وتشبيحاً للنظام.

وكان النظام قد فتح القنوات منذ زمن طويل مع العديد من شيوخ الصوفية، كما فعل الشيء نفسه مع رجال الدين من الطوائف الأخرى كالمسيحية، فسمح لهم بنشاطات ومكاسب بعضها تافهةٌ لهم ولطرقهم ولطوائفهم مقابل تأييدهم له والسكوت عن موبقاته. وذلك قبل أن تنفجر الثورة السورية وتكشف معادن وأخلاقيات رجال الدين والسياسية والعسكر والمثقفين، لنرى الكثير من هؤلاء، ومنهم رجال الدين، ومن ضمنهم الصوفيون أو المحسوبون عليها، يرفضون السكوت على جرائم النظام، فهاجم بعضهم النظام من منابرهم، ما تسبب في اعتقالهم، ومغادرة الكثير منهم سوريا، كما انضم بعضهم لقتال النظام بالسلاح، بينما التزم آخرون الصمت. وفي الوقت نفسه، كشفت الثورة مدى نفاق وكذب الكثير من رجال الدين ورضوخهم الكامل للنظام ومن كل الأديان والطوائف، فبرروا جرائمه في سجن وقتل الشعب السوري وتدمير مدنه. لتكون الثورة السورية هي الكاشفة.

أما التجربة الثانية لي مع التدين، فقد كانت أكثر درامية وبتوجيه كامل من النظام، بل وباقتراح من "الرفيق نائب رئيس الجمهورية العميد رفعت الأسد قائد سرايا الدفاع"، وذلك في سياق سعي النظام للسيطرة على كل ما في سوريا ومنها المجال الديني وخلق أدوات له. فعقب حصولي على الشهادة الثانوية الأدبية في العام 1990، وقع اختيار الرفاق في "شعبة الحفة لحزب البعث العربي الإشتراكي" عليّ، لإرسالي ضمن الطلاب الذين يوفدونهم كل سنة للدراسة في كلية الشريعة في جامعة دمشق كـ"مهمة حزبية". وقد تناولت هذه التجربة بكل ما يتعلق بها على مستوى سوريا في مقال مستقل سبق نشره في "المدن"

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها