الجمعة 2023/03/17

آخر تحديث: 15:33 (بيروت)

لماذا نقرأ الروايات؟ (3/2)

الجمعة 2023/03/17
لماذا نقرأ الروايات؟ (3/2)
الروائي الأفغاني خالد حسيني (صفحة الكاتب في فايسبوك)
increase حجم الخط decrease
يحذّرنا الناقد الأميركي، هارولد بلوم، من مغبّة الوقوع في الظن أن كاتب الروايات لا يعرف مسبقاً ما يدور في أذهان قرّائه. أما المنظّر الكندي، نوثروب فراي، فيقلب المقولة ليرى في القارىء جاسوساً يسترقّ السمع خفية عن الكاتب أثناء فعل القراءة. غالباً ما تستبدّ بي فكرة أخرى تخالف كلاً من بلوم وفراي، وترى أن العلاقة بين الروائي والقارىء هي أشبه بعملية مطاردة يحاول عبرها كل منهما إلقاء القبض على الآخر.

لماذا نقرأ الروايات؟ لست أدري، لكن الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه كان يرى أن الكتاب لا يبدأ ولا ينتهي... لعل الشغف بقراءة الرواية يكمن في تلك الرغبة الغامضة في المراوحة التي لا تخلص بين اللابداية واللانهاية.

بالنسبة إلى الفينومينولوجي الإيطالي، لويجي باريسون، فإن الأثر الفني، والرواية ضمناً، هو "لا نهاية" مدرجة في نهاية من حيث الشكل. فالرواية بالنسبة لهذا الفيلسوف هي "لا نهاية" تجمّعتْ في شكل، إذ - ولو من باب المجاز- لا بد من وضع نقطة النهاية بنهاية الأمر. أما الفينومينولوجي الآخر ادموند هوسرل، وفي السياق نفسه تراه يسأل: ما الذي يشكّل "الأفق" في العملية الإدراكية بالإجمال؟ ليجيب، إنه الغموض، العنصر الغامض في النص. إن الغموض واللاتكامل واللاسببية ليست بالأشكال الموجودة في العالم حسب هوسرل، لكن لا بدّ منها بغية وصف العالم الغامض والبربري والمضجر كما تقول إحدى شخصيات "الطبل الصفيح" لغونتر غراس... المعلم بيبرا هو من يقول هذا الكلام في رواية غراس، وهو معلم رائع.

لا يمكن ضبط جواب بعينه حيال السؤال موضوع هذه المادة، لكنه سؤال يستدعي بالقوة وبفرح – أقله بالنسبة إلي – جملة من الأسماء الرائعة التي أشاركها على طريقتي الخاصة الحياة.

على الرغم مما تحفل به الروايات من صخب وعنف وضجيج وهياج، لكنها في العمق بمثابة دعوة إلى الإصغاء والصمت. بعد انغماسي لسنوات طوال بعالم دوستويفسكي، دهليزي الطابع، صرت أقرب إلى تمثال من الشمع في هذا المقهى من مقاهي شارع الحمرا أو ذاك. باستثناء بعض شخصيات دوستويفسكي، وعلى رأسهم ستافروغين، بطل رواية "الشياطين"، كنت لا أتشارك الكلام مع أحد. إن قراءة الروايات تستدعي الإستغراق في شبكة تقوم على ازدواج النص واللحم البشري. نعم، إن كائنات الروايات العظيمة تتنفّس وتتفرّس في الوجوه وتفرّ لحظة محاولتك كقارىء إلقاء القبض على آخر حدود انفعالاتها.


(دوستويفسكي)

إن الرواية كيان مغرور تراها تعلّم عشاّقها الفرار والتواري وتجنّب أولئك الذين لا يقرأون الروايات لأسباب تخصّهم... صراحة، غالباً ما أجهد نفسي كي آخذ على محمل الجد أولئك الذين لا يقرأون الروايات مهما علا شأنهم "الثقافي"، لكني دائماً أفشل.

عندما قال رولان بارت في العام 1968 بـ"موت المؤلّف"، كان يعني بالتحديد أن القارىء يمتلك امتياز إضفاء المعنى أو نزعه بل وإنطاق النص بما يخالف رغبة الكاتب. بالعودة إلى هارولد بلوم، تراه يدعونا في كتابه "كيف نقرأ ولماذا" إلى امتلاك ما يكفي من الشجاعة لسوق أنفسنا إلى "الإفتنان بإساءة القراءة"... وأنا، من هذا الصنف.

يريد بارت من القارىء أن يكون تحرياً، عنصراً في مكتب مكافحة الإرهاب... إرهاب المعنى المتسيّد للكلمات. يقول أهل الفيلولوجيا من الشغوفين بتتبع جذور الكلمات، وهؤلاء غالباً ما يتّسمون بحكمة التاريخ، يقولون إن الكلمة ليست وحدة قائمة بذاتها إنما كل كلمة بعينها مأهولة بعدد لا نهائي من الكلمات الأخرى. فلنستجوب النصوص إذن عبر التفرّس في عيون الكلمات مندون أن يرف لنا جفن. من المؤسف أنْ لا يكون المرء شرطياً لدى انكبابه على قراءة الروايات... وعن خبرة أتكلّم.


(غرافيتي لإدغار آلان بو في أحد شوارع يريفان/ أرمينيا)

قد تودي الرواية بنا إلى تكثيف مراكز الألفة وقد تودي إلى اللامبالاة اتجاه كل أمكنة العالم لكل الفرار شبه مستحيل من سطوة تلك الغرف المعتمة التي تشرّع بعض الأعمال الروائية أبوابها داخل دهاليز أذهاننا... تحية إلى العزيز بلوتو، "القط الأسود" الشهير في قصة إدغار إلن بو بمناسبة الحكي عن الغرف السرية والمغلقة فضلاً عن الأمكنة الشاسعة التي ترسمها داخل الرؤوس تلك الروايات العظيمة. هل لأحدكم أن زار جبهات القتال في الحرب العالمية الأولى؟ سلّموا أموركم إلى "الجندي الطيّب شفيك"، في الرواية الشهيرة لياروسلاف هاشيك، وستشاهدون تلك الجبهات بملء نظرات عيونكم، إنما كونوا على حذر من رائحة الجثث المتفحمة. أما بالنسبة إلى اللبنانيين الذين تشدّهم الرغبة لزيارة القاهرة من جُوّا ولا يملكون جواز سفر بسبب سفالة الطبقة السياسية في بلدهم، فليتبحروا في عوالم نجيب محفوظ الروائية، لا سيما "أولاد حارتنا".

لماذا نقرأ الروايات؟ أيضاً وأيضاً، لست أدري... ربما الأمر ينطوي على سرّ دفين يخالجنا حيال إعادة النظر ببعض الصفات البشرية كالسفالة، وقد تمّ ذكرها في المقطع أعلاه وفي البال ههنا سفالة "سيمونيني" الرائعة في رواية امبرتو إيكو "مقبرة براغ"، وهي سفالة لا علاقة لسفلة لبنان بها على كل حال، سواء كانوا من القادة المنتصرين أو الأساتذة أوالبكوات أو أولئك الساعين للسلطة كالجراذين في أقبية مدن بول أوستر على سبيل المثال.

يحاول الواحد أن يجتاز طريقاً واحداً إزاء هذا النوع من الأسئلة: لماذا نقرأ الروايات؟! لكن واحدة مثل الفيلسوفة البلغارية، جوليا كريستيفا، تأتي لتهمس في الأذُن قائلة: إن النص هو ترحال إلى نصوص أخرى، لترمي بالتالي بواحد مثلي في غابة لاتناهي التناص... لكني أحبّ كريستيفا كثيراً وقد اشتهرتْ بعدم ترددها إلى آخر الشوط... هي مغامِرة وليست جبانة.

تقول كريستيفا إن ثمّة بُعداً أفقياً للكلمة داخل النص الروائي، وتقصد بهذا البُعد المعنى المحض معجمي للكلمة، بالإضافة إلى بعد آخر أي البُعد العمودي وهو الذي تستقي منه الكلمة مخزونها الدلالي لتجذر هذا البُعد الثاني في خبايا التاريخ. وعند هذا البُعد الأخير ربما نجد بقية جواب على سؤال هذه المادة.

إن تفجير دلالة النص من خلال المتلقّي يقوم عبر توظيف هذا المتلقّي لميراث كلماته الخاصة، أي سرديته الثقافية واللسانية لدى انكبابه على قراءة العمل الأدبي، ولن أتوسّع كثيراً في هذه النقطة إلا عبر بعض الأمثلة: هل تلقّيك يا ابن شارع الحمرا لكلمات "مئة عام من العزلة" هو عينه تلقّي مَن يعيش في أحياء العاصمة الكولومبية!(مؤلف الرواية غابرييل غارسيا ماركيز وهو كولومبي). أكثر ما تشير إليه قراءة الروايات هو أن ثمة آليات تتحكّم باستقبالنا للنصوص. محلياً، هل غسان كنفاني بالنسبة لواحد من يساريي حزب الله، هو عينه غسان كنفاني بالنسبة لواحد مثلي يرى في هذا الحزب وبالاً وخراباً؟! طبعاً لا.

ثمة روايات تستنفر ما يداخلنا من شياطين، فنبكي ونضحك، أو ربما نرمي الرواية في سلّة المهملات. تراني مرة أجهش بالبكاء لدى تكلّم خالد الحسيني في "عدّاء الطائرة الورقية" عن تقافز الأولاد وركضهم خلف الطائرات الورقية، وقد رسمني هذا الروائي الرائع عبر أولاد روايته بما فاق توقعاتي كمتلقٍّ لهذا العمل الجميل وأعادني بلحظة إلى فترة من عمري... وها هي حبّات الدمع تتجمّع مجدداً داخل مقلتي وأنا أكتب هذا الأمر، فأتوقف عن الكتابة للحظات.... ثم أعود.

تطرح قراءة الرواية علينا، نحن أهل الشغف بهذا الأمر، السؤال التالي: أيهما أقدم، الخيال أم الذاكرة؟ إن الخيال غالباً ما يفتّش عبر الكلمات عن ذريعة للحضور أما الذاكرة فهي بمثابة ذريعة الدموع كي تنهمر.

كقارىء شغوف بالروايات، غالباً ما أشعر أني لا أتعدى أن أكون مجازاً لتلك الحقائق التي تبثّها الروايات.. مجاز هش تنقصه المتانة يفتّش عن ذريعة للصمود عبر تسقّط أخبار ذاته من خلال هذه الشخصية الروائية أو تلك. فأنا لسنوات عديدة كنت هولدن كولفيلد "الحارس في حقل الشوفان" لسالنجر على سبيل المثال. بهذا السياق، كم كان الفيلسوف البلغاري- الفرنسي تودوروف مصيباً حين قال: إن النص الروائي هو نزهة يقوم فيها المؤلف بوضع الكلمات ليأتي القرّاء بالمعنى. ليس المعنى في عبارة تودوروف هذه، هو واقعة ذهنية على الإطلاق، إنما واقعة انفعالية تتراوح بين الرغبة في القتل أو الإستسلام، وصولاً إلى الشعور بغبطة غريبة حتى على وقع زلزال كالذي وقع في تركيا. ربما يكون هنري ميلر في رائعته "عملاق ماروسي" هو أروع من بثّني منذ زمن مضى أسباب تلك الغبطة التي بالفعل تلبستني ليلة الزلزال.


(هنري ميلر)

لا أبطال نهائيين في الروايات العظيمة، لا حدود صارمة وواضحة بين الجنسيات والدول والأقاليم ولا بين ألوان البشرة والخصائص الجندرية... أنا ناس الروائي النيجيري غينوا اتشيبي، لكني أيضاً سارقة الكتب في رائعة الروائي الأسترالي ماركوس زوساك... تراني فوق الإبل في صحارى ابراهيم الكوني، لكني أيضاً واحد من ناس كارلوس زافون في "متاهة الأرواح" بمدينة برشلونة التي رزتها بالفعل.

لماذا أقرأ الروايات؟ كي أكون كل شيء، ولا شيء في الوقت نفسه.

في كتابه "فن القراءة" يقول الأرجنتيني البرتو مانغويل، أن القارىء المثالي هو تماماً الكاتب، قبل أن تتجمّع الكلمات على الصفحة. لست أدري إذا ما كنت قارئاً مثالياً بالمعنى الذي وضعه مانغويل، لكن نادرة هي الرواية التي لا أُجهز على أحداثها وعلى شخصياتها إبان قراءتي لها. إن انتقال ملكية الحدث الروائي هو حق من حقوق القارىء، كما أرى، وتشويه الشخصيات أو تجميلها هو دفع بالكلمات إلى أقصى احتمالات دلالاتها.

رغبة عارمة تستبدّ بي كي لا أتوقف عن كتابة هذه المادة. إنما فاطمة تناديني كي أذهب إلى الأتولييه بغية مساعدتها في شدّ القماش حول الإطار الخشبي لأنها في صدد المباشرة بلوحة جديدة. أرمي القلم من يدي وأهرول إلى حيث فاطمة وفي ذهني الفكرة التالية: ربما كلنا، نحن البشر، لا نتجاوز أن نكون شخصيات روائية خطّنا مؤلف مجهول فوق لوحة الوجود وأدار لنا ظهره ورحل ويطلقون عليه أسماء شتى... إنما من هو المؤلّف بالإجمال؟

إنه موضوع الحلقة الثالثة والأخيرة من هذه السلسلة... الحلقة الأولى هنا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها