الإثنين 2023/02/27

آخر تحديث: 11:01 (بيروت)

"ليلى" رواية قضيّة... رَدٌّ آخر على "القبع" بالاغتيال

الإثنين 2023/02/27
"ليلى" رواية قضيّة... رَدٌّ آخر على "القبع" بالاغتيال
increase حجم الخط decrease
ليلى... أو معنى أن تكون في غير بيتك(*)، العنوان في حدّ ذاته يشي بما أرادته الكاتبة لمياء المبيِّض من روايتها هذه. إنّها قصّة أو حالة الإنسان (ليلى) في علاقته بالمكان (بيتك) في ظروف مغايرة (غير)، قصّة معاكسة ومختلفة تماماً عن سياق الأمور الطبيعية التي يفترضها الإنسان في مكانه المألوف أو يطمئنّ إليها أو يطلبها أو يخشى فقدانها إن هو غادره.


وقد جعلت الكاتبة لمياء المبيّض رواية الأحداث والتحوّلات اللبنانيّة على لسان والدتها ليلى الحاجّ المبيّض، إذ تركت لها الاسترسال في الكلام على العيش الرغيد والمشترك، ما قبل الحرب اللبنانية في العام 1975، في بلدتهم الغبيري وسائر بلدات ساحل المتن الجنوبيّ، الذي حمّلته الحرب والتغيّرات القسريّة التي أتت بها "تسميةً" أخرى "الضاحية" (الجنوبيّة)، التي صرّحت الراوية ليلى غير مرّة عن كرهها هذه التسمية التي تنزع عن الأشياء والأماكن هوّيتها الأصليّة والأصيلة، كأنّ في ذلك تعمُّدَ إعدامِ المكان وأهله.

وإذ يوحي العنوان ومطلع الرواية بأنّها سيرة ترويها لمياء عن أمها، أو سيرة ذاتية على لسان ليلى الأمّ، سرعان ما نتبيّن أنّ بطلتها ليلى، الراوية، لا تحكي قصّة حياتها إلا بمقدار ما يحيل ذلك إلى طبيعة الحياة التي كانت قائمة في ساحل المتن الجنوبيّ، أرض التعايش والتآلف بين الطوائف، وأرض الأمراء الذين أمّوه وسكنوا فيه من الإرسلانيّين إلى المعنيّين والشهابيّين وغيرهم. هذا المكان الذي أُزيحوا منه على دفعات، حتى هجّروا عنه نهائيّاً بعد حرب العام 2006، طُرِدوا منه طرداً ليتحوّل إلى "بيت المقاومة"، ويتحوّلوا هم نازحين إلى المكان الجديد في بيروت، شارع الحمرا وشارع كَراكاس ومحيطهما، وخصوصاً في بناية يعقوبيان الشهيرة. (هنا أيضاً تتبدّل الأحوال وتنتشر فوضى الحرب والانقسامات).

ساحل المتن الجنوبيّ صورة مصغّرة عن لبنان ما قبل الحرب، لبنان العيش الواحد، لبنان الإلفة والتماهي بين أبنائه من مختلف الطوائف، قبل أن تتحوّل هذه الطوائف عنصر تنابذ وتحارب. هذا اللبنان الذي طمح إليه جيل ليلى، ومَن قبله، والذي ربّما بقي مجهولاً عند شريحة واسعة من أبناء هذا الجيل. ومن "ذاكرتها الموجوعة تتذكّر ليلى سنواتها فيه حيث لا تمييز، ولا يُعرَف للناس طائفة أو مذهب يميّز بينهم، وحيث كانت "تترَنَّح مُختالَةً بَين "أللهُ أكبَر" و"أبانا الذي في السَموات"، أوكسِجين ساحِلِ المَتنِ الجنوبي الآتي من خَمسينيّات هذا القَرن يملأ رئتيها". كلّ الأماكن فيه ملكها، لا فرق بين بيت وآخر ولا بين باب وآخر ولا أقفال أو "ساقوطات" ترفع الحواجز وتُقيم الموانع في وجه أبناء المنطقة الواحدة "لَم تدخُل ليلى يَومًا إلى مَكانٍ في أرجاءِ طفولَتِها إلا وكانَت تَشعرُ أنَّه مُلكٌ لها. في ساحِلِ المَتنِ الجنوبيّ كانَت جميعُ البيوتِ بيوتَها، تدخُلها بدون استِئذان. لا مَكان في عقلها للساقوطَةِ والأقفال".

جاءت الحالة المغايرة الأولى مع الانتقال من الساحل والإقامة في بيروت، بعدما انتُزِعت من المكان الذي ألفته وأحبته، حيث أصلها ومسقط رأسها، "ليستْ ليلى المَرأةَ الوحيدةَ الهاربةَ من الذئب، ذئبِ التَّرحال إلى حياة لا تُشبِهُها". ثمّ إن منطقة الحمرا، وشارع كراكاس، وبناية يعقوبيان، االتي شكّلت كلّها في ذاكرة اللبنانيّين مركزاً وموئلاً للديبلوماسية والسياسة والثقافة والصحافة والحياة المدينيّة، قد بدأت تتأثر وتتغيّر بفعل الحروب الى طاولتها، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة (بناية يعقوبيان نموذجاً). ومع أنّ في ذاكرة ليلى شيئاً من هذا الماضي القريب، إلا أنها لم تعد تجد نفسها في ذلك المكان، مع تغيّر معالمه ودوره إثر انتشار الأحزاب والقوى المسلّحة فيه (وهي الحالة المغايرة الثانية التي تُمِضُّها).

هذا النزاع الداخليّ في الشعور بالانتماء إلى الأماكن إنّما سببه "ناسُ" هذه الأماكن، الأصليّون والطارئون (بصريح العبارة)، ليس بسبب أصلهم أو عرقهم أو دينهم، إنّما بسبب طبيعة نظرتهم إلى الوطن والدولة والسياسة والحريّة والديموقراطيّة، وإلى الإنسان على الأخصّ. فما بين سكان ساحل المتن الجنوبيّ الأصلييّن وبين الوافدين الجُدد إليه (ليس خافياً أنّ المقصود بهم جماعات حزب الله) تعارض وتضارب في النظرة إلى هذه الأمور. لقد بقي مع هؤلاء الوافدين الجدد من أيّد نظرتهم واعتنق فكرهم وإيمانهم، وسار في ركبهم الميليشويّ، أمّا من رفض ذلك، فكان خياره القسريّ الارتحال إلى مكانٍ آخر.

ليس الخيار الأوّل (الخضوع والإنضواء) سهلاً على مّن ألِف العيش الواحد، وعلى من تمرّس بالثقافة المتنوّعة الغنيّة وبروح الحرّية والعدالة والديموقراطيّة والإنسانيّة. وهذا ما أرادت الكاتبة أن تبرهنه على لسان أمّها الراوية، حين خصّصت فصولاً مهمّة من الرواية لسيرة خالها عبد الله الحاجّ، المتعلم والمثقّف الذي خاض غمار السياسة، وانتُخب نائباً في البرلمان اللبنانيّ، ونافح فيه مدافعاً عن حقوق العمال والفقراء، ودعا إلى إرساء الديموقراطيّة والمصداقيّة والنزاهة في العمل السياسيّ، وتحلّى بالجرأة والتجرّد، مبتعداً عن المصلحة الذاتيّة. وما ترشّحه لرئاسة الجمهورية، في وجه صديقه كميل شمعون، إلا من باب رفض النظام الطائفيّ، وقد نال صوتاً واحداً فقط، هو صوته، ممّا يبرهن على قوة هذا النظام وتجذّره.

خالها عبد الله لم يترك وريثاً سياسيّاً له بالمعنى التقليديّ للكلمة، و"لا ابن عمّتي" محسن سليم النائب والمحامي والحقوقيّ، والد لقمان سليم الكاتب والمثقّف والناشط الذي اغتيل في ظروف ليست خافية على أحد. وإذ رأت في التعتيم على تجربتَيْ عبد الله الحاجّ ومحسن سليم اغتيالَيْن معنويَيْن، رأت في اغتيال لقمان سليم امتدادًا "واحدًا لفِعلِ الإلغاء، وهو إلغاءُ نماذجَ ثقافيَّة سياسيَّة خَرجَت عن جِسم التَقليد" وأرادت التصدّي للقوّة "الاكتساحيّة".

ومن الاغتيالَيْن المعنويّين إلى الاغتيال الجسديّ، اغتيال لقمان بن محسن سليم، الكاتب والناشر والمخرج. ولا تُنكر ليلى أَنّها اختلفت معه في الرأي أحياناً، وأنها لامته على تهوّره وأنّها كانت تفضّل أن يبقى "كاتباً ومفكّراً وشاعراً ومؤرّخاً"، وناشطاً بين "المفكّرين والفلاسفة والفنّانين والباحثين من المشرق إلى المغرب". وقد استشعرت في جرأته "طيشاً طفوليّاً" مقترناً بـ"صلابة في القناعة يسقيها إرثٌ جميل". لكنها من ناحية أخرى أُعجِبت بمواقفه الجريئة" و"بإصراره على نَحتِ حيِّزٍ في الذاكرةِ الجَماعيَّة لقَسوةٍ سادَت بلادَنا قد يكون عُنوانها جرائم الحَرب الأهليَّة" وما يشبهها ويتفرّع عنها. قُتِل لقمان، أو أُزيح لأنّه "لم يَقبَل أن يَصيرَ لاجئًا أو سائحًا أو تائهًا عَن قَلبِ ثقافتِه و"ضاحيتِه" التي لم تُغادِره ولم يُغادِرها"، ولها وعنها نشر الكثير من المشاهير. اغتياله الجسديّ، مثل الاغتيالات المعنويّة، هو فعل "إلغاء نماذج ثقافيّة سياسيّة خرجت عن جسم التقليد".

تحاول ليلى أن تتفهّم موقف لقمان وهي تشرح كثيراً من جوانبه، فترى فيه نوعاً من وراثة بيولوجيّة، انتقلت إليه جينيّاً من خؤولةٍ أو عمومةٍ، موقف تميّز بالاندفاع والحماس أو الطيش، أو أخيراً الجرأة التي لم تجعله يلوي أمام التهديدات والأخطار المحدقة به، واصلاً بالتضحية إلى  أقصى حدودها.

في القسم الأخير من الرواية صاغت لمياء المبيّض نبذات متفرّقة من سيرتها الذاتيّة على لسان والدتها التي ساقت لها قصصاً عن تربيتها لها مع شقيقها وشقيقتها، إضافة إلى توجيهات وشروحات حول نظرتها إلى الوطن والمجتمع والطوائف، مشدّدة على ضرورة تمسّكها، أي لمياء التي خاضت الشأن العام في جانب من حياتها، بحرّية تفكيرها وبالقِيم التي ربّتهم عليها، من دون أن تغفل، أو تتورّع عن إيضاح نظرتها "المختلفة" إلى الحُسَيْن وما تراه في استشهاده من مغازيَ إنسانيّة تستحق التوقّف عندها والتمثّل بها، بعيداً عن الطقوس غير المألوفة التي علقت بذكرى استشهاده، وذلك في عرض تحليليّ مقنع وممتع ومثقِّف.

العمل إذن هو نوع من رواية سيرة، "سيرة ذاتيّة" إذا ما اعتبرنا أنّ المتكلّمة ليلى تحكي قصتها، و"سيرة آخرين"، عندما تتناول ليلى قصة حياة خالها عبد الله والناس المحيطين به، وقصّة نسيبها لقمان سليم والاغتيال المدوّي الذي آلت إليه حياته هذه، أو سيرة أبنائها، أي لمياء وإخوتها في خياراتهم وتوجّهاتهم.

لكن الكتاب يتَّخذ عملياً بُعدَيْن اثنين إضافيّيْن. فهو من جهة عمل توثيقيّ إذ إن الكاتبة قد أغنته بالحواشي التوضيحيّة، حول الأَعْلام والأماكن والأحداث، إضافة إلى تصديره بشجرة العائلة التي توضح صلات القربى بين الناس الذين تتحدّث عنهم، وإلى صور هؤلاء الناس الفوتوغرافيّة، صور باسبور أو صور مناسبات، كما ذيّلته بلائحة بأهمّ الأحداث التي وقعت ما بين العامين 1950 و1954.

ويجدر فعلاً التوقّف عند صورة الغلاف الفوتوغرافيّة اللافتة، وهي بعدسة المؤلّفة لوالدتها ليلى بطلة الرواية. لقطة جانبيّة لوجه الأمّ-الراوية ، تظهر فيها عيْنٌ ثاقبة في نظرةٍ ذكية، تعلو ابتسامةً خفيفة توحي بالثقة من النفس، وسط تجاعيد العمر التي أضفت على الصورة-اللوحة إيقاعاً منتظِماً في توجّهها من جهتين ناحية العين، بؤرة الصورة. وجهٌ، أضفى، وبشكلٍ عكسيّ، نضارة وحيويّة على تجاعيده، بما يختزنه من ذكريات الماضي وذخائره، ويذكّرنا حكماً بوجه الممثلة غلوريا ستيوارت التي اشتُهِرت في عمرٍ متقدِّم عندما لعبت في فيلم "تايتانيك" (1997) دور روز دوايت بوكايتر العجوز التي تروي مغامرتها في الفيلم الذي يستعيد قصتها.

أمّا البُعد الثاني في الكتاب فهو البعد التحليليّ الاجتماعيّ-السياسيّ-الدينيّ، الذي يعكسه ما في نفس الراوية ليلى من حالات صراع داخليّ أو خارجيّ، في الإطارين الزمانيّ (الماضي والحاضر والمستقبل) والمكانيّ (الغبيري، ساحل المتن، الضاحية الجنوبيّة، بيروت). وهو ما جعل منها رواية موقف تعلّله الكاتبة بلسان أمّها، وتبرّره وتدعو إليه وتدافع عنه. إنه الموقف الرافض للوضع القائم، لكلّ فساد وانحطاط، وكلّ تحكّم وتدجين، وكلّ إسقاط وتنميط، وكل ظلمٍ وعسف... ولكلّ إلغاء وإزاحة واغتيال معنويّ أو جسديّ.

وقد عملت الكاتبة لمياء المبيّض على ربط هذه الأبعاد، السيرة والتوثيق والتحليل، بخيط روائيّ بسيط، وسكبت كلّ ذلك في قالب لغويّ متين غني بالصور والتعابير الأدبيّة والشاعرية في الكثير  من نواحيه، سمحت فيه للقارئ بأن يتتبّع، عبر المسار الفنّي، مسار أحداث مهمة في تاريخ لبنان صنعها أو شارك فيها رجالات مهمّين، آمنوا بمبادئ وقيم سامية واتّخذوا مواقف ثابتة لم يحيدوا عنها ولو كلّفهم ذلك الاغتيال المعنوي أو السياسيّ. إنها الجينة التي تنتقل من جيل إلى جيل، من عبد الله الحاجّ ومحسن سليم، إلى لقمان سليم، شهيد الحريّة والمبادئ الراسخة.

بذلك يصبح الكتاب رواية قضيّة... قضية لا يُراد لها أن تموت.

إنّها ردٌّ آخر على "القبع" بالاغتيال. 
__________________


(*) لمياء المبيّض، "ليلى... أو معنى أن تكون في غير بيتك"، دار الجديد، بيروت، 2022، 212 صفحة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها