الأحد 2023/12/24

آخر تحديث: 07:31 (بيروت)

2023: عام الخوف من أن يُدفن المرء حياً

الأحد 2023/12/24
2023: عام الخوف من أن يُدفن المرء حياً
تافوفوبيا العنوان العريض لهذا العام.
increase حجم الخط decrease
هل يمكن اختزال سنة 2023 تحت عنوان واحد؟ سؤال موجّه إلى قارىء هذه المادة.

بالنسبة إلي من الصعوبة بمكان حدوث هذا الأمر وقد تداخل العام الخاص إلى أقصى الدرجات. فنحن مع هذه السنة إزاء ما يشبه التناص بين البرّاني والجوّاني، بين الداخل والخارج، بين الأنا بعامة والعالم.

إنه بحق عام الذكاء الإصطناعي والغباء العالمي في حيّز واحد، أما الحروب التي تحيك خيوط نهايات هذا العام فهي تعزيز دموي لهذا التناص الفاجر.

غالباً ما تمتاز النهايات بوجاهة الحضور وبوجاهة الأفول في آن معاً، بيد أن هذه الوجاهة ترتدي حكماً وشاح الحيرة عندما يكون الحضور هو عينه الأفول. إن نهاية هذا العام تستبطن بدايته إلى حدّ بعيد وأكثر ما تُنعش هذه التوأمة الفريدة بين البداية والنهاية ذلك الشعور الذي يشي بغياب تتالي الأيام. نعم، ثمة ما يدفع المرء للشعور أن العام 2023 لا أيام فيه ولا أسابيع أو شهور بل تراه أقرب إلى الرزمة الواحدة، "بقجة"(صرة) من كراكيب الأيام المكدسة فوق بعضها البعض. رزمة واحدة من الخراب والتزعزع وفقدان الإيمان بجدوى أن يكون المرء حياً.


لعل جنون هذا العام هو انعكاس لجنون البشر ولعل رغبة سنيّه التالية بالإنتحار هي تأكيد صارخ لجدوى هذا الحل النهائي، وقد توسّل هذا الحل عدد كبير من الناس كما تنبئنا شاشات الأخبار. كتب الفرنسي موريس بلانشو في إحدى صفحاته: "إن المنتحر يؤكد الحاضر بقوة، فلحظة الإنتحار هي من القوة بحيث لا يمكن تجاوزها". إن العام 2023 أيضاً هو عام لا يمكن تجاوزه... فهو يؤكد انتحارنا بقوة. على كل حال وكما يرى أهل النقد الفنّي، إن وظيفة الفن ليست معرفة العالم إنما إنتاج مكملات له، ويبدو أن ثمّة من ارتضى في هذا العالم أن يكون الخراب والحروب والموت والهلاك أنماطاً حديثة من الفنون. إن صالات عرض العالم تفور بلوحات الدم ونصوصه كما طالعنا هذا العام الذي نترقّب بحذر أفوله أو هم يترقّب أفولنا، لست أدري.


بعكس المتفائلين من أهل النفاق أو الدجل أو بسطاء النوايا الحسنة، يرى أصحاب التجربة والصدق مع الذات وأصحاب البصيرة وبُعد النظر أن الغموض ليس حالة استثنائية تعتور العالم من آن لآن، بل أن الغموض تحديداً يشكّل جوهر هذا العالم، والسؤال الذي يُطرح بقوة في هذا الصدد هو: من يستطيع أن يسترشد شكل العالم بعد العام 2023؟


كم كان مكيافيللي حكيماً عندما قال إن معاينة العالم بحقيقته لا تكون عبر توسّل دروب العقل أو الفضيلة إنما عبر توسّل طرق ربّة الحظ (فورتونا)، تلك الآلهة العوراء والتي تضرب خبط عشواء في حركة ترحالها، ولن أتوسّع مع مكيافيللي أكثر على الرغم من الإغراء الذي يمارسه في هذا السياق. 


برأيي الشخصي، إن مكيافيللي كان يتكلّم عن العام 2023 حيث البقاء على قيد الحياة هو ضرب من الحظ وحيث النجاة تقع في باب الصدفة... فهذا العام بلور بعمق الحقيقة التالية: إن العالم كبَيْت يأوي البشر تراه يتراوح بين كونه مكاناً فسيحاً لربة الحظ من جهة ومقبرة فسيحة من جهة أخرى. فتوالي أيام هذا العام ومنذ بداياته الأولى مهّد كل السبل التي تفضي إلى هذه الحقيقة. ليس الأمر أننا كبشر نتجنّب الموت سعياً للبقاء على قيد الحياة، بل الأمر قد أضحى أننا كبشر صرنا نجهل الفرق بين الموت والحياة.


ثمة مَنْ صاغ في القرن التاسع عشر عبارة التافوفوبيا، التي تعني خوف المرء من أن يُدفن حياً وهو ما نقشعه منذ السابع من أكتوبر في غزة المسكينة بسبب جرائم نتنياهو هناك وهو ما شاهدناه أيضاً في سوريا المسكينة بدورها مع بشّار الأسد.


إن هذا الإلتباس المذهل بين كون المرء حياً أو أنه قد مات، كما صاغ هذا العام هذا الإلتباس بجهد، ربما يجيز- هذا الإلتباس - لكلمة تافوفوبيا أن تكون العنوان العريض لهذا العام. 

يستهلّ أمين معلوف كتابه "اختلال العالم" بالقول: "دخلنا القرن الجديد بلا بوصلة" ليردف في الصفحة الثالثة من هذا الكتاب بالقول: "الزمن ليس حليفنا وإنما هو القاضي الذي يحاكمنا"... ولكن ماذا إذا كان الزمن بكلّه قد تكدّس في عام واحد؟ ماذا إذا كانت كل صدمات الأيام ومنغصاتها قد احتشدت في حيز من الوقت لا يتعدى الـ 365 يوماً؟


أكثر ما تنمّ عنه ظلمات العام 2023 وقرع طبول حروبه الكثيرة أنّ البوصلة التي يأملها أمين معلوف لم يكن لها حضورٌ في يوم من الأيام في هذا العالم وأكثر ما يشي به هذا العام المتوهّج حروباً هو أن كل بدايات العالم قد تمخّضت عن نهاية تكاد أن تكون لا نهائية. فنحن مع هذا العام إزاء اختزال كل أزمنة الموت والهلاك في زمن واحد وما التنقيب عن البوصلة حيال هذا الإختلال العالمي إلا نوع من الأمل أو الرجاء الصالح.


بيد أن ثمة أملاً أجيزه على الأقل لنفسي في حضرة عالم العام 2023 وما بعده، وهو أمل كان قد صاغه الشاعر الجاهلي تميم بن أبي مقبل عبر قوله:
ما أطْيَبَ العَيْشَ لو أنّ الفتى حَجَرٌ
تَنْبُو الحوادثُ عَنْهُ وهو مَلْمومُ.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها