الأربعاء 2023/12/13

آخر تحديث: 11:26 (بيروت)

كلنا خُدّج يا غزة

الأربعاء 2023/12/13
كلنا خُدّج يا غزة
مستشفى الشفاء في غزة - الأطفال الخدج (غيتي)
increase حجم الخط decrease
أكثر ما تنبئنا به هذه البلاد هو أننا وُجدنا في هذا العالم في غير أواننا. نحن خُدّج العالم نُتعنا إلى خارج الأرحام على غفلة منا.
إن الموت الذي يرسم خطانا التالية منذ صرختنا الأولى تراه يتثاءب مللاً لكثرة جرف الجثث. نحن خُدّج العالم الذين مع كل هزيمة ترانا نرفع شارة النصر. لم نكتف بعد من صدأ البطولة وذل الشهادة وعفونة مساراتنا المضرجة بالدماء. لا يأبه العالم بنا، فنحن خُدّج شقوقه العفنة، خُدّج منعطفات مصالح كباره وخُدّج حاجته لقبضات أهلنا تمهيداً للحرب المقبلة. ترانا نحن الخُدّج المتهالكين حاجة العالم لأن نكون خُدّجاً، حاجة زعماء بلادنا ووعورة "انتصاراتهم" وأيضاً حاجة تلك المنابر التي تستنبتنا قبل الأوان في كل آن.

تلفظنا الأرحام قبل الأوان إلى وديان سحيقة الغور وتلفظنا نحو عتمات متراكمة وهلاك أبدي لا يعرف الملل. لا سمات محسوسة لنا، إلا ذلك الدم المراق وتلك الأشلاء المعفرة بتراب الركام ثم الركام ثم الركام.

نحن خُدّج العالم، لا يريد العالم لنا إلا أن نكون رموزاً لناره المقدسة، أما بلادنا فتأبى فك طلاسم حروفها إلا عبر أجسادنا المتهالكة.

نحن خُدّج التناثر والتبعثر شأننا في ذلك، شأن ربّ نواحينا الذي يأبى الجمع، لكنه أيضاً يأبى الإنمحاق... ربما نحن جسد هذا الرب العتيق الذي قد ملّ بطولات أسلافنا وطقوس ذوينا وحيرة جدّنا الأول. 

نتداعى فوق أزقة الحروب وساحاتها المترامية ونسترسل في الإنصات إلى صوت الصاروخ في دربه إلى بيتنا وشجرتنا وعريشة شرفتنا. أكثر ما تحترف أمهاتنا البكاء وتعفير شعرهن بتراب المقابر ولطم الخدود بالأكف. إنها بلاد الخُدّج الذين قد استأثرت بهم القداسة، النبوة والنفط وعواء كلاب الأرض في ظلمات الليالي. 

نحن أيضاً خُدّج يا غزة، كلنا في هذه البلاد خُدّج نفتش متهالكين عن أثداء الأمهات ونسعى متلصصين بغية الرجوع إلى رحابة الأرحام.

جاء في لساننا العربي: خدجتْ الناقة، أي ألقتْ ولدها قبل أوانه لغير تمام الأيام، أما في لسان العالم فإن أيامنا لم يحن وقتها بعد... فنحن كما يرانا العالم بلا أيام يا غزة. 

نحن مجرد تاريخ قديم تفور باطن أراضيه وعلياء سماواته البعيدة بكل أسباب دموعنا. نحن الخُدّج المساكين، مهنتنا في العيش تقتصر على دموع الأمهات، المنازل المهدمة، الأشجار المحروقة وجباه الآباء المفصدة بعرق انتصارات فارغة وأصوات تعلو بشعارات كثيرة: لبّيك يا فلان... فداك يا علّان وبْلا بْلا بْلا!!

ربما يجب علينا نحن الخُدّج الملاعين، الركون إلى الحقيقة التالية: هو قدرنا أن نكون مجرد خدوش في سماء السكون والأمان والطمأنينة. قُدّ موتنا من كل حدب وصوب وصير إلى ترتيب كل أسباب هذا الموت حتى قبل أن نولد. أنهيتُ أول رواية كتبتها، "إكميل"، بدموع أمي وأنهيتُ آخر رواية كتبتها، "مذكرات شرطي لبناني"، بدموعي، وبين الدمعين كم من السنوات الفقيرة إلا من منابر كثيرة ثم الإنصات إلى صوت الهزيمة. كلنا في هذه البلاد خُدّج إلا دموعنا التي تليق لكل وقت في هذه البلاد، في هذه الإهانة. 

قد تكون بلادنا خُدّج، دساتيرنا أيضاً وقوانينا وصولاً إلى شارات السير عند تقاطع طرقنا المقعرة. لست أدري، فكل ما أنا بصدده هو أني، شأن كل أترابي من الخُدّج الآخرين، مجرد ثمرة اختلاس نظر الأمهات إلى الحرب المقبلة ثم التمعن في صورة الفجيعة.

غدنا أمس، أمسنا مستقبل لم يتهيّأ للعالم بعد، أما حاضرنا فلا يتعدى أن يكون جمعاً هائلاً من الخُدّج الذين يرفدون الموت بجثث صغيرة طازجة وشهية... فنحن وجبة العالم الدسمة، نحن وجبته الموسمية.

لا همة لهذا العالم لأن يستطلع جلبة زعيقنا، لا همة له إلا للفّنا بقماش أبيض وتقديمنا قرابين فوق كفوف آبائنا. لعلنا أكباش فداء العالم، لعلنا أكباش فداء ربّ هذه البلاد الملعونة... بل لعلنا لا شيء سوى مجموعة من الخُدّج تتلمس مع كل ولادة تراب أرض مشوبة بكل أهوال الإضطراب والحيرة.

من مجريات الأمور أن تلبّي الأيام حاجة اكتمال الجسد داخل أحشاء الأمهات إلا هنا، فالأيام هنا وسيلة للنقصان، وسيلة للبتر ووسيلة الخُدّج كي يتكوكموا تحت أنقاض النكبات. أحشاء أمهاتنا ساحات وغى حتى قبل أن نكون.
جاء في أحاديثنا القدسية: "كلُّ صَلاةٍ لا يُقْرَأُ فيها بفاتحة الكتاب، فهي خِداجٌ"، أي نقصان. ربما نجسّد نحن خُدّج هذه البلاد علامة نقصانها، ربما نحن إشارة واضحة إلى عدم اكتمالها. قد نكون فاتحتها المنقوصة والكتاب السري الذي تشيح هذه البلاد السائبة النظر عنه خوفاً من التمحيص فيه وفكّ رموزه والكشف عن عوراته المتمادية. ربما نحن الخُدّج الوقحين أشباح خرائب هذه البلاد والأوسمة التي تعتلي صدور مآزقها اللامتناهية... بكل الأحوال نحن كتاب هذه البلاد وبعط نصوصها.

كلنا خُدّج يا غزة... نتمتع بتاريخ طويل وعمر قصير وقامات تحدودب تحت الأسقف والسماء وعنابر الموت الكثيرة. 

قد لا يليق بنا التفجّع، فنحن الفجيعة. قد لا يحقّ لنا النظر إلى ما يتجاوز أجسادنا ونحن محل نظرات الأرض اللامبالية. لن يكون لنا اكتمال ولن يكون لنا طول قامة. لقد أُريد لنا أن نكون قرع طبول الحروب، مزامير الأسفار البعيدة وفاتحة تُقرأ فوق جثث يهيل عليها التراب كل من التاريخ والعالم والربّ العجوز.       
  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها