السبت 2023/11/04

آخر تحديث: 15:14 (بيروت)

"فلسطين التي ذهبت سترجع مرة أخرى"...إعادة اكتشاف أغنية

السبت 2023/11/04
"فلسطين التي ذهبت سترجع مرة أخرى"...إعادة اكتشاف أغنية
لحّن محمد فوزي هذه الأغنية وغناها في العام نفسه الذي وضع فيه لحن النشيد القومي الجزائري
increase حجم الخط decrease
وسط ركام الأحداث الفلسطينية المتلاحقة، والكشف عن نوايا إسرائيل في تهجير سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية، ومن بعدها ربّما تهجير مماثل لسكان الضفة الغربية إلى الأردن ليصبح، الحديث عن حق العودة ضرباً من من العبث. ومع تذكري لرائعة فيروز "سنرجع يوما"، تذكرت أغنية أخرى تكاد تكون مجهولة صدح بها الموسيقار محمد فوزي اسمها "سترجع مرة أخرى" أو "أنشودة العودة"، ولا أدري لماذا اختفت هذه القصيدة من الذاكرة العربية، وأهملت الإذاعة المصرية تقديمها وسط تجاهل أعم لكل وطنيات الموسيقار الراحل، والتي بلغتْ نحو ثلاثين عملاً لا يعرف منها المستمع العربي على نطاق واسع سوى أغنيته الشهيرة "بلدي أحببتك يا بلدي"، التي كتبها الشاعر مرسي جميل عزيز. هذا التجاهل العمدي أفسح المجال أمام وطنيات كل من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ الذين كانت لهم الحظوة لدى رجال حكم عبد الناصر.

لكن "طوفان الأقصى" وما تبعه من مذابح إسرائيلية في غزة، أزال الغبار عما ظن البعض أن النسيان طواه، ودفعني لإعادة اكتشاف واحدة - كانت في حينها - من أهم الأغنيات التي تغنّت بالعودة وبشرت بها حتى ولو بعد حين. القصيدة كتبها العام 1948 - عام النكبة – الشاعر والسياسي الفلسطيني هارون هاشم رشيد (1927- 2020) ابن مدينة غزة، ويقول مطلعها "أخي مهما ادلهم الليل سوف نطالع الفجر، ومهما هدنا الفقر، غدا سنحطم الفقر، أخي والخيمة السوداء قد أمست لنا قبراً، غداً سنحيلها روضاً ونبني فوقها قصراً"، وهي القصيدة المكوّنة من من أحد عشر بيتاً، وينهيها كاتبها بقوله "فلسطين التي ذهبت سترجع مرة أخرى".

ربما حققت هذه القصيدة شهرة واسعة في الأوساط الأدبية بحكم شهرة شاعرها الذي لُقّب بشاعر العودة، لكن أجيالا بأكملها لا تعرف أنّها تحولت قبل نحو سبعين عاماً إلى أغنية بصوت المطرب والملحن محمد فوزي. وفي خطوة مضنية، تبين لي بالبحث والتقصي داخل سجلات الإذاعة المصرية، أن محمد فوزي قد استأذن الشاعر هارون هاشم رشيد الذي كان يعمل في ذلك الوقت مديراً لمكتب إذاعة صوت العرب في غزة الواقعة تحت الحكم المصري منذ العام 1948، لتلحين وإنتاج تلك القصيدة على نفقته الخاصة وإهدائها للإذاعة المصرية. وسجلت الأغنية في 24 كانون الثاني/يناير 1956 تحت عنوان "سترجع مرة أخرى"، قبل أن يتم تعديل الاسم إلى "أنشودة العودة" بحسب ما هو مدوّن على شريط تسجيل الأغنية التي تبلغ مدتها اثنتي عشرة دقيقة، ولحن محمد فوزي هذه الأغنية وغناها في العام نفسه الذي وضع فيه لحن النشيد القومي الجزائري...


(المطرب محمد غازي... هل غنى القصيدة نفسها)

اللافت أنّ سجلات الإذاعة المصرية تشير أيضاً إلى وجود أغنية أخرى بالاسم نفسه سجلت بعد يومين فقط من هذا التاريخ، بصوت المطرب الفلسطيني محمد غازي (1922 – 1979)، ابن مدينة يافا، والذي حقق مجده الغنائي فى لبنان برفقة فيروز والرحابنة، ولم يتسن لي معرفة ما إذا كانت هي الأغنية ذاتها التي كتبها هاشم رشيد ولحنها محمد فوزي أم لا، سيما وأن شريط تسجيل الأغنية لا يحمل أي بيانات، ولم يكن من المستطاع الاستماع إليها في تلك المغامرة البوليسية ومضاهاتها بالأولى. لكن يبدو لي أو من المرجح أنها ليست القصيدة ذاتها، وأن خطأ تسجيل البيانات على شريط تسجيل الأغنية، راجع إلى أنّ محمد غازي كان قد تلقى في هذا التوقيت تحديداً دعوة من أحمد سعيد، مدير إذاعة صوت العرب، لتسجيل مجموعة من الأغنيات الوطنية من بينها قصيدة "هذه أرضي وهذا بلدي" التي كتبها أيضا هارون هاشم رشيد مؤلف أنشودة العودة، وأن القصيدة التي تغنى بها غازي قد سجلت للإذاعة المصرية في التاريخ المشار إليه (26 كانون الثاني/ يناير 1956). إذ ليس من المنطق أن يمنح محمد فوزي أغنيته لصوت آخر بعد يومين فقط من تسجيلها، حتى لو كان هذا الصوت هو محمد غازي، الذي كان يتمتع بقوة الصوت وبراعة الأداء.  


(هارون هاشم رشيد)

وبحسب كلام هارون هاشم رشيد عن ملابسات كتابة هذه القصيدة، في حوار له مع أحدى القنوات المصرية، قبل رحيله بخمس سنوات، أنّه كتبها في أعقاب النكبة الكبرى، ومضى قائلاً: "في العام 1948 كان الانفجار الأكبر لشاعريتي حينما رأيت أنّ أخواني وأهلي من أبناء المدن الفلسطينية المزدهرة والتي كان يأتي إليها الناس من كل أنحاء الدنيا، يهجّرون إلى غزة في مواكب بسيطة، نحملهم على أكتافنا ونأخذهم إلى المساجد والمدارس كمراكز إيواء مؤقتة، قبل أن نقيم لهم أول مخيم، وتشاء الظروف أن أكون أنا أول من يضرب أول وتد في أول مخيم للاجئين على شواطئ غزة، ولم أكن حتى ذلك الوقت قد نشرت أية قصيدة لي، ومن وحي ما رأيت أو من هوله، كتبت قصيدتي الأولى "سترجع مرة أخرى". وقتها أخذت أفكّر في واقع الأهل الذين أتوا من مدن أعرفها جيداً، مثل حيفا ويافا واللد والرملة، وكيف كانوا يعيشون في بيوت فارهة ويملكون البيارات والشركات والمصانع والمعاهد وكيف وصلت بهم الحال بعد النكبة مهجرين قسراً يلفهم اليأس، فشعرت حيالهم بخوف شديد، وقررت أن أبث فيهم بقصائدي الأمل بالعودة إلى الديار، وكتبت: أخي مهما ادلهم الليل سوف نطالع الفجر... إلى البيت الذي أقول فيه: فلسطين التي ذهبت سترجع مرة أخرى، وهي القصيدة التي تغني بها لاحقاً المطرب الكبير محمد فوزي".

وقد ذاعت تلك القصيدة في غزة بعدما تغنى بها محمد فوزي من إذاعة صوت العرب، فكان مسحراتي رمضان في كافة مناطق القطاع يوقظ الصائمين كل ليلة بنهاية القصيدة "فلسطين التي ذهبت سترجع مرة أخرى"، كما أن لافتة كبرى قد علقت بعرض مخيم البريج كتب فيها بيت الشعر ذاته، ما كان يمثل ذلك سعادة وفخراً لصاحب القصيدة الذي نال ألقابا كثيرة من بينها شاعر النكبة وشاعر العودة وشاعر الثورة.

هارون هاشم رشيد، الذي توفي في كندا في 27 تموز/يوليو 2020 عن ثلاثة وتسعين عاماً، كان قد بدأ مشواره في سلك التربية والتعليم، قبل أن يتولى منصب مدير مكتب إذاعة صوت العرب في غزة، ثم تولى مناصب عديدة في منظمة التحرير الفلسطينية وجامعة الدول العربية. وله 22 ديواناً، وأكثر من مسرحية أشهرها "سقوط بارليف" التي قدمها المسرح القومي في مصر سنة 1974، من بطولة كرم مطاوع وسهير المرشدي، كما تغنّت بأشعاره أصوات عربية عديدة بخلاف محمد فوزي، مثل فايدة كامل ومحمد قنديل وطلال مداح...

(*) الجدير ذكره أنّ جدلاً حصل في مرحلة سابقة، حول من صاحب كلمات "سنرجع يوماً" التي غنتها فيروز، ففي حين نشرها الشاعر هارون هاشم رشيد العام 2009 في ديوانه "الصوت والصدى"، يقول الباحث محمود الزيباوي أنها تعود للأخوين رحباني... واللافت أن تسجيل أغنية محمد فوزي وأغنية فيروز حصل في وقت متقارب...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها