السبت 2023/11/25

آخر تحديث: 12:34 (بيروت)

عن جاد تابت و"لبنان البدايات في سيرة مثقف حداثي"

السبت 2023/11/25
عن جاد تابت و"لبنان البدايات في سيرة مثقف حداثي"
جاد تابت موقعا كتابه
increase حجم الخط decrease
أصاب جاد تابت حين عنون كتابه "لبنان البدايات في سيرة مثقف حداثي". الحداد جرجس حنا تابت الذي انتقل من بحمدون للعمل في حلالات الحرير التابعة لشركة الارملة غيران وأبنائها في القِرّية كان ينتمي إلى القطاع الاقتصادي الذي سوف تتجمع فيه عوامل نشوء دولة لبنان الكبير: المصالح الرأسمالية الفرنسية، في اقتصاد الحرير وفي مرفأ بيروت، والحاجة لتوسعة جيل لبنان بعد مأساة المجاعة، في إطار من التقاسم البريطاني الفرنسي للسيطرة على المشرق العربي. 
 
نسج جاد تابت في سيرة أنطون تابت موجزًا لتاريخ اقتصادي-اجتماعي وسياسي وثقافي للبنان وعاصمته على امتداد خمسة عقود من الزمن. ونجح في ان يضع جاد سيرة والده في زمانه. واي زمان. 

فرقة "الفرسان" من الاصدقاء السورياليين تجمع التمرّد على المجتمع الى عصيان المخيّلة. ولا تلبث السوريالية ان تقود أنطون تابت إلى الشيوعية عام ١٩٣٩ بعد هزيمة الجمهورية الاسبانية على يد قوات الضباط الفاشيين بقيادة الجنرال فرانكو. 

ومن مفارقات النضال ضد الفاشية أنه سوف ينتج مجلة "الطريق" التي سوف تنفرد لعقود في حمل الجديد والتقدمي من الثقافة العربية باوجهها المختلفة من الجزائر الى سورية مروراً بفلسطين ومصر والجزيرة واليمن. 

كان زمن أنطون تابت زمناً يمكن للمرء فيه أن يكون حداثياً وديموقراطياً وعلمانياً وداعية اتحاد عربي ومعادياً للاستعمار الغربي والصهيونية من دون أن يجد في الأمر أي تعارض بين كل هذه الانتماءات. ويذكّرنا جاد في سيرة الاب بدور الشيوعيين السوريين واللبنانيين في المبادرة والنضال ضد الصهيونية منذ الثلاثينات. وهي صفحات مشرقة متواصلة لا تقلّل منها سقطة تأييد الاعتراف السوفياتي بقرار تقسيم فلسطين العام ١٩٤٧ على الرغم مما أحاط بها من اتهامات واستبطان للذنب.  

ما يثير الاعجاب فعلاً هو كيف أمكن لهذا الرائد في العمار الحديث أن ينجح في لعب أدوار سياسية في الحقل العام من مرشح للمقعد النيابي في بيروت الى شخصية عربية عالمية ناشطة في النضال ضد الفاشية ومجلس السلم العالمي، ومنظمة التضامن الآسيوي الافريقي، ومنظمة القارات الثلاث برفقة امينها العام المناضل المهدي بن بركة. وأذكر هنا مبادرته لحملة عالمية منذ الخمسينات من أجل بحر أبيض متوسط مجرّد من السلاح النووي. وهي دعوة لافتتاح حملة نحتاجها الآن اكثر من أي وقت مضى في وجه السلاح النووي الإسرائيلي.
 
ولا شك في أن أنطون تابت عاش فترات درامية في الحركة الشيوعية لم تعفه من نقد المؤلف على أوهامه بصدد الاتحاد السوفييتي في الأربعينات. على أنه كان أحد قلة من القادة والمناضلين الشيوعيين نجت من تصفيات العهد البكداشي. لم يلحقه مصير فؤاد الشمالي ويوسف إبراهيم يزبك وصدقي إسماعيل وقدري قلعجي ورئيف خوري واميلي فارس إبراهيم وآخرين، ولا مذلّة النقد الذاتي الذي فرض على فرج الله الحلو واميل توما. مهما يكن، فأنطون تابت لم يسلم من اتهام خالد بكداش له بالعمالة لبريطانيا لخروجه على خط الحزب في حركة أنصار السلم، وذلك في الوقت الذي كانت السلطات اللبنانية تطارد أنطون تابت وتعتقله بتهمة... الشيوعية! 

في الحقل المهني، بنى أنطون تابت الشيوعي الكنائس والمدارس قدر ما بنى المعامل والفنادق ومقرات الشركات، وهو يسهم في تجميل بيروت وتجديدها. لكنني احسب ان اشد ما كان يحزنه هي الصدمات التي تلقاها في جهوده من أجل التخطيط المدني والعمارة ذات البُعد الاجتماعي. فقد نجحت أوليغارشية من أصحاب المصارف وكبار المستوردين ووكلاء الشركات الأجنبية والمقاولين، ووكلائها في السلطة، في أن تقضي خلال عهدي الاستقلال الاولين على كل محاولات للتخطيط المدني، وأبرزها المخطط التوجيهي لمدينة بيروت الذي وضعه المهندس ايكوشار. وإن يكن انطون تابت قد تمكن من تنفيذ مشروع واحد من مشاريعه للسكن الميسّر فما لبث ان تحوّلت المباني إلى مساكن لضباط الجيش. بقي آخر مشروع للاسكان الشعبي في عهد شارل حلو من دون تنفيذ، وبه قُضي على الحق في السكن، أحد ركائز العدالة الاجتماعية، لصالح تسليع السكن تلبية لمصالح المقاولين والمضاربين العقاريين وأصحاب المصارف. 

كم هو معبّر ونحن في صدد مشاريع الخير العام الموؤودة أن يختم جاد كتابه بفصل عن مرافقته صديق والده المعمار العالمي اوسكار نماير لمدينة طرابلس العام 1962 وقد كلّف بتصميم بناء معرض دولي في العاصمة الثانية. وهذا ما يعيدنا الى البدايات. خلال انشاء لبنان الكبير قرر الجنرال غورو ضم مدينة طرابلس ومرفئها الى الكيان الجديد. عنى ذلك فصل المدينة عن دورها كمرفأ للشمال الشرقي السوري. كان غرض الضم واضحاً: منع المدينة من ان تتحول الى مرفأ سورية، ليبقى مرفأ بيروت الميناء الأوحد لسورية والمشرق. اعترض رئيس الوزراء الفرنسي ميلران لأن ضم ذاك العدد من المسلمين سوف يفقد الكيان الجديد اكثريته المسيحية العددية. لكن انتصرت المصالح الرأسمالية الفرنسية المسيطرة على شركة المرفأ. بقيت طرابلس داخل دولة لبنان الكبير. ووجد حلّ آخر للتمثيل الطائفي في النظام السياسي. مذّذاك والتركيز على نمو العاصمة فيما العاصمة الثانية موعودة. وعدت بالنفط. لم ينفع مصب أنبوب ومحطة تكرير شركة نفط العراق في انتشالها من هامشيتها. واغتالت الحرب المعرضَ الذي كان يفترض افتتاحه العام 1975. وطرابلس التي تضم احدى روائع العمارة العالمية الحديثة الان لا تزال موعودة بما يسمّى "معرض رشيد كرامي الدولي"، فيما ترتفع معدلات الفقر فيها إلى ما يزيد عن ثلاثة ارباع السكان وتحظى بلقب أفقر المدن على ساحل البحر الأبيض المتوسط. 

الِسَير تتشابك 
خلال الأعوام 1952- 1968 كنت اصطاف واسرتي في بحمدون الضيعة؛ كانت تلك السنوات مطلع التمرّد والنضال الطالبي والسياسي. 

في الكنيسة الإنجيلية، حضرت اجتماعات «جبهة القوى الطالبية»، الجبهة التقدمية الجامعة التي كنت أنتمي وجاد الى فرعها في الجامعة الاميركية ببيروت؛ وفي ساحة كنيسة مار جريس، شاركت في احتفالات "عيد السيّدة"، وحضرت سهرات الدبكة حتى الفجر وتوزيع الهريسة على البيوت؛ وعرفتُ قبضاي الضيعة الياس تابت، يتبختر بسيارته الاميركية المكشوفة، ويعرّج مرة بالشهر لتناول الخوة من الوالد الذي كان يستثمر "فندق سميراميس" في البلدة، الوالد الذي بدأ حياتَه في الخدمة الفندقية موظفا للاستقبال في فندق "اوريانت بالاس" في ساحة الحجاز بدمشق، الفندق ذاته الذي صممه... أنطون تابت. 

يسرّني انني نشرت ثلاثة نصوص من هذه السيرة في مجلة "بدايات"، الفصلية العربية الثقافية التي توليت رئاسة تحريرها خلال السنوات العشر الاخيرة. 
وهو بذاته رأي بليغ في فحوى الكتاب. 
ولكن ها نحن نعود الى البدايات.
ويا ما أحلى البدايات!
جاد تابت، شكرًا على هذا الجهد الدؤوب والثمين.

(*) كلمة ألقاها الباحث فواز طرابلس في ندوة حول كتاب "لبنان البدايات في سيرة مثقف حداثي" لجاد تابت في معرض بيروت للكتاب..
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها