تجدد السجال والمراوحة عشية صياغة دستور العام ١٩٢٦ الذي كرّس التمثيل الطائفي في الوزارة والإدارة، ولم يشمل التمثيل النيابي لأن القانون الانتخابي قضى بانتخابات خارج القيد الطائفي في البرلمان وتمثيل الطوائف في مجلس الشيوخ. خلال مداولات الدستور، أعلن دو كيه أن خطأ قد ارتُكب في إدارة «لبنان أكبر مما يلزم» مقترحًا إعادة ضم طرابلس والمناطق المسلمة من البقاع وعكار الى سورية، على اعتبار ان فترة الاختبار أثبتت عدم ضمان ولاء المسلمين للكيان اللبناني.
وبعد سنتين من ذلك، قدّم إميل إده مذكرة الى الخارجية الفرنسية تطالب بإنشاء «لبنان متوسط» يمنح فيه جبل عامل الحكم الذاتي، على غرار دولة السويداء في سورية، وتعاد عدة مناطق ذات أكثرية مسلمة من البقاع الى سورية. واقترح إدّه أن تعلَن طرابلس «مدينة حرّة» تحت الإدارة الفرنسية، يُمنح سكانها المسيحيون الجنسية اللبنانية والمسلمون الجنسية السورية. هكذا تتأمن في «اللّبنان المتوسط» هذا أكثرية مسيحية تصل الى ٨٠ ٪ من السكان، وتسمح بـ«حمايته»، حسب تعبير إده. لم يؤخذ باقتراح إدّه. فقد تجاوزه دستورُ ١٩٢٦ الذي عيّن حدود لبنان.
خلاصة
لم يلبِّ مولودُ العام ١٩٢٠ آمال وطموحات معظم الأهالي الذين لم يؤخَذ برأيهم في رسم حدود بلادهم. عارضت أكثرية المسلمين الكيان الجديد يعبّر عنها «مؤتمر الساحل والاقضية الأربعة» ومؤتمر وادي الحجير في جنوب البلاد، فيما أهالي طرابلس ينظمون التظاهرات ويرفعون العلم العربي معلنين الانضمام الى سورية. من جهة أخرى، كانت أكثرية اعضاء الهيئة الوحيدة الممثلة لسكان جبل لبنان موجودة في المنفى لمعارضتها الانتداب ومطالبتها بالاستقلال، حتى لا نتحدث عن المسيحيين من دعاة الوحدة العربية أو السورية أو من دعاة «لبنان الكبير» المستقل أمثال يوسف السودا وبولس نجيم وخيرالله خيرالله والعديد غيرهم.
ولا شك في أنّ ولادة «لبنان الكبير» زعزعت الاضطراب لدى دعاة «لبنان المسيحي» من أنصار الانتداب المتجمعين في «حزب الترقّي» الذي تأسس عام ١٩٢١ تحت شعار «الحفاظ على استقلال لبنان الكبير في ظل الانتداب الفرنسي». وقد ضمّ الحزب خليطًا من سياسيين ورجال أعمال ومثقفين، بينهم شارل قرم وبشارة الخوري وميشال شيحا وإميل ادّه. غير أنّ الحزب كان قد تفكّك عندما قدّم اميل إدّه مذكرته عن «لبنان المتوسط». ولن يمضي وقت طويل قبل أن يقع الانقسام في هذا التيار بين إميل إدّه (ومعه شارل قرم) وبشارة الخوري (ومعه ميشال شيحا) الذي سوف يهيمن على حياة لبنان السياسية لأكثر من عقدين من الزمن.
ولعلّ جورج سمنة، أحد أبرز دعاة «سورية التامّة» في ظل الانتداب الفرنسي، كان الأوضح تعبيرًا عن مأزق التكبير والتصغير حين تساءل «أي وطن قومي مسيحي هو هذا حيث نصْف سكّانه من المسلمين؟» (زامير، ١١٣)
لم يبقَ السؤال دون إجابة. تقرّر تجاوز تعريف اللبنانيين بين مسيحيين ومسلمين وإعادة تعريفهم بما هم أقليّات وفق صيغة المستشرق البلجيكي هنري لامنس الذي عرّف لبنان على أنّه «ملجأ الأقليات الدينية»، فتأسس بذلك مبدأٌ جديدٌ تُحتسبُ بموجبه حصّةُ كلّ «أقليّة» من التمثيل السياسي والإداري بناءً على وزنها العددي بين السكان. وقد تكرّس ذاك المبدأ في دستور العام ١٩٢٦، علمًا أنّ مسلسل البحث فيه والمراجعة سوف يتوالى فصولًا في منعطفات عديدة في الأعوام ١٩٣٢ و١٩٣٦ و١٩٤٣ و١٩٥٨ و١٩٩٠ وهو مستمرٌّ إلى يومنا هذا.
أما عن الاقتصاد، فتحقّقت الوحدة الاقتصادية بين سورية ولبنان، عن طريق اعتماد عملة واحدة، ومصرف مركزي واحد، وهيئة تجارة خارجية واحدة، ووحدة جمركية، وعددٍ من الشركات الفرنسية للنقل والكهرباء والمياه والبرق والبريد والاتصالات تخدم البلدين سُمّيت «المصالح المشتركة». هكذا تكرّس دورُ بيروت بما هي المرفأ والعاصمة الاقتصادية لسورية ولبنان، وفوق ذلك، مقرّ إقامة المفوّض السامي الفرنسي.
ومن المفارقات الفاجعة لجدل الوحدة والانفصال بين سورية ولبنان أنّ الاستعمارَ الفرنسيّ وحّد البلدين اقتصاديًّا وتولّى الاستقلاليون في البلدين فصلَ وحدتهما الماليّة والجمركيّة عام ١٩٤٨-١٩٥٠!
مراجع مختارة
-Chambre de Commerce de Marseille, Congrès français de la Syrie – Séance des Travaux, Marseille,1919.
-Chevalier, D., “Lyon et la Syrie en 1919, les bases d’une intervention”, in Revue Historique, t.224, 1960, pp. 275-320.
-Congrès français de la Syrie, Que Vaut la Syrie ? Rapport de M. Paul Huvelin, Lyon and Marseille, 1919
-Ducruet, Jean, Les capitaux européens au Proche Orient, Paris, 1963.
-Eddé, Carla, Beyrouth la naissance d’une capitale, 1918-1924, Paris, 2013.
-Jouplain, M. (Boulos Nujaym), La question du Liban. Etude d’histoire diplomatique et de droit international, Paris, 1908.
-Kassir, Samir, Histoire de Beyrouth, Paris, 2003.
-Khoury, Gérard D., La France et l’Orient Arabe, Naissance du Liban Moderne, 1914-1920, Paris, 1993.
-Laurens, Henri, Le Royaume Impossible. La France et la genèse du monde arabe, Paris, 1990.
-Salibi, Kamal. A House of Many Mansions. The History of Lebanon Reconsidered, Berkeley, 1988.
-Samné, Georges, La Syrie, Paris, 1920.
-Tobie, Jacques, Interêts et impérialisme francais dans l’empire ottoman, 1895-1914, Paris, 1977.
-Tyan, Ferdinand, France et Liban, défense des intérêts français en Syrie, Paris, 1917.
-Zamir, Meir, “Smaller or Greater Lebanon” – The Squaring of a Circle”, The Jerusalem Quarterly, no. 23, Spring, 1982, pp.35-53.
أديب، أوغست، لبنان بعد الحرب، القاهرة، ١٩١٩.
البستاني، سليم، الأعمال المجهولة، بيروت ١٩٩٠.
خليفة، عصام، الحدود الجنوبية للبنان، بيروت ١٩٨٥.
السودا، يوسف، في سبيل الاستقلال، الجزء الأول، ١٩٠٦-١٩٢٢، بيروت، ١٩٦٧
الصلح، كاظم، مشكلة الاتصال والانفصال في لبنان، بيروت، ١٩٣٦.
طرابلسي، فواز، حرير وحديد. من جبل لبنان الى قناة السويس، بيروت، ٢٠١٣.
طرابلسي، فواز، تاريخ لبنان الحديث، الطبعة الخامسة، بيروت، ٢٠١٨.
طرابلسي فواز، سايكس- بيكو- بلفور. ما وراء الخرائط، بيروت، 2019.
[1] للمزيد عن سايكس- بيكو ومصيره، راجع: فواز طرابلسي، سايكس- بيكو- بلفور: ما وراء الخرائط، بيروت ٢٠١٩
[2] الأقضية هي: عكار، ضنية، طرابلس المدينة، الكورة التحتا، الكورة الفوقا، الزاوية، بشري، البترون، جبيل، المنيطرة، الفتوح، كسروان، المتن، زحلة، الساحل، بيروت، الغرب، المناصف، الشحّار، الجرد، العرقوب، الشوف، جزين، الريحان، الخرّوب، التفاح، شمر، بشارة، مرج عيون، الحولة، حاصبيا، راشيا، البقاع، بعلبك. وتوزيع السكان الطائفي: يهود ٢٠٦٠، مسلمون ٧٦،٣٦٢، متاولة ٣٦،١٢٠، كاثوليك ٣٢،٤٧٣، أرثوذكس ٦٨،٠٤٠، موارنة ٢٠٦، ١٨٠. المجموع: ٤٨٧،٠٠٠.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها