الجمعة 2020/12/18

آخر تحديث: 12:51 (بيروت)

الاقتصاد والطوائف في نشوء لبنان الكبير/ما تبقّى من سايكس-بيكو؟(3-3)

الجمعة 2020/12/18
الاقتصاد والطوائف في نشوء لبنان الكبير/ما تبقّى من سايكس-بيكو؟(3-3)
(*)
increase حجم الخط decrease
هنا بحث للمؤرخ والكاتب فواز طرابلسي يُنشر في مجلة "بدايات" ٢٨-٢٩، التي تصدر بعد أيام، وتتضمن ملفاً عن لبنان الكبير... وتنشره "المدن" على ثلاث حلقات، هنا الجزء الثالث والاخير بعدما نشرنا الجزء الأول، والثاني

بحصيلة مقررات مؤتمر سان ريمو لم يبقَ كثير من اتفاق سايكس- بيكو وخريطته. 

- قضى الاحتلال الفرنسي لسورية على اول وأهم بند في الاتفاق وهو «استعداد الدولتين الاعتراف بدولة عربية مستقلة او بكونفدرالية حكومات عربية مستقلة في المنطقتين AوB في ظل حكم قائد عربي».

- أزيلت المنطقة المرسومة باللون البنّي على الخريطة التي تؤشّر على الإدارة الدولية المشتركة (البريطانية-الفرنسية-الروسية) للقدس، وخضعت فلسطين بكاملها للانتداب البريطاني المتضمن الالتزام ببناء وطن قومي لليهود في فلسطين.

- وقّعت بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة في مؤتمر سان ريمو اتفاقًا خاصًّا حصلت كلٌّ من فرنسا والولايات المتحدة بموجبه على حصة في شركة نفط العراق. وضمّت بريطانيا الموصل إلى لواءَي البصرة وبغداد لتشكيل مملكة العراق، برئاسة الملك فيصل الذي وضعته على عرش العراق بعد ان اخرجته قوات الاحتلال الفرنسي من دمشق.

- خسرت فرنسا كامل كيليكيا في جنوب تركيا بعدما حرّرتها الحركة الوطنية التركية.

- بناءً على قرار صادر عن المؤتمر الكولونيالي البريطاني المنعقد في القاهرة والقدس، في آذار/ مارس ١٩٢١، نشأت امارة شرق الأردن، برئاسة الأمير عبدالله ابن الشريف حسين، تمتدّ من الضفة الشرقية لنهر الأردن الى حدود العراق شرقًا، ومن قضاء عجلون شمالًا الى حدود الحجاز جنوبًا.[1]

النزاع على خريطة
تبقى خريطةُ لبنان الكبير محاطةً بكثيرٍ من الألغاز.
أرفق غورو مرسوم إنشاء «دولة لبنان الكبير» بخريطة قدّمت نسخةٌ منها إلى عصبة الأمم. لم أستطع الى الآن العثور على صورة الخريطة الأصلية المودعة في محفوظات الأمم المتحدة. مهما يكن، يتبيّن من خريطة «لبنان الكبير» ١٩٢٠ التي وزّعها الجيش اللبناني بمناسبة الاحتفالات بالمئوية أنها مرسومة فوق خريطة العام ١٨٦٢ بحيث تظهر من حوافها بعضُ معالم تلك الخريطة التي لم يؤخذ بها. لكن هذا لا يُسكن الفضولَ بالخريطة وكيفية رسمها وتعيين حدودها.

نُشرت خريطةُ الحملة الفرنسية السورية لأول مرة عام ١٨٦٢، وقد ورد في رأس نسختها الأحدث، التي طبعتها «مؤسسة المطبوعات اللبنانية» في حزيران/ يونيو ٢٠١٠، الآتي: «خريطة لبنان/ بناءً على استطلاعات المفرزة الطوبغرافية/ تبع/ قوات الحملة الفرنسية السورية/ في ١٨٦٠-١٨٦١/ أودعها في أرشيف وزارة الدفاع/ النقيب أركان حرب جيليس /Gelis في زمن وزارة سعادة الماريشال الكونت راندون/ ١٨٦٢/ تمّت مراجعتها في ١٩١٣ و١٩١٥». 

والخريطة التي تصل شمالًا إلى النهر الكبير وجنوبًا إلى رأس الناقورة وبحيرة الحولة وتشمل شرقًا منطقة الزبداني، مزوّدة في أسفلها بلائحة إحصائية للسكان مصنّفين حسب الأقضية[2] وحسب الطوائف الست: روم أرثوذوكس، روم كاثوليك، دروز، مسلمون شيعة، مسلمون سنّة، يهود، موارنة. ويبلغ مجموع عدد السكان ٤٨٧،٦٠٠ نسمة وعدد الموارنة ١٨٠، ٢٠٨.

ولكن ما لا نعلمه عن الخريطة هو الأهم: بناءً على أيّ معطيات رُسمت في العام ١٨٦٢؟ ومن زوّد الفريق العسكري بالتوجيهات اللازمة لتعيين حدود ما سمّي «لبنان» حينها؟ ولمّا كانت الخريطة تشير الى تعديلات أُجريت عليها خلال عامَي ١٩١٣ و١٩١٥، وجب السؤال: لماذا تقرر تعديل الخريطة عشية الحرب العالمية الاولى وخلالها؟ ومن تولّى التعديل؟ وبناءً على أي اعتبارات ومصالح؟ وهل أشرِك لبنانيون في ذلك الجهد؟ ومن هم؟

الأمر الراجح ان الخريطة وتعديلاتها فرنسية المصدر. ويجوز الافتراض أنّ الخريطة التي حملها البطريرك الحويّك إلى مؤتمر الصلح بباريس كانت موجودة أصلًا في محفوظات البطريركية المارونية في بكركي. ما يثير السؤال عن الدور الذي لعبته البطريركية المارونية في تحديد معالم تلك الخريطة منذ الحملة العسكرية في العام ١٨٦٠ وصولًا إلى مؤتمر الصلح في العام ١٩١٩. أما الإجابة على باقي الأسئلة فيستدعي المزيد من البحث والتحرّي.

مهما يكن، لم يقف النزاع على خريطة « لبنان الكبير» عند نشرها رسميًّا في مرسوم الجنرال غورو. في عام ١٩٢١ دعا رئيس الوزراء الجديد أريستيد بريان الى فصل طرابلس عن «لبنان الكبير» من اجل تأمين أكثرية عددية للمسيحيين. ويبدو أنّ غورو رضخ لدعوة رئيس الوزراء الجديد بتعليق ضمّ طرابلس وعكار الى لبنان الكبير كما يظهر في تلوين المنطقة بالأصفر في خريطة مراكز المحاكم «لبنان الكبير» عام ١٩٢٣ (راجع الصورة)

(**)



تجدد السجال والمراوحة عشية صياغة دستور العام ١٩٢٦ الذي كرّس التمثيل الطائفي في الوزارة والإدارة، ولم يشمل التمثيل النيابي لأن القانون الانتخابي قضى بانتخابات خارج القيد الطائفي في البرلمان وتمثيل الطوائف في مجلس الشيوخ. خلال مداولات الدستور، أعلن دو كيه أن خطأ قد ارتُكب في إدارة «لبنان أكبر مما يلزم» مقترحًا إعادة ضم طرابلس والمناطق المسلمة من البقاع وعكار الى سورية، على اعتبار ان فترة الاختبار أثبتت عدم ضمان ولاء المسلمين للكيان اللبناني.

وبعد سنتين من ذلك، قدّم إميل إده مذكرة الى الخارجية الفرنسية تطالب بإنشاء «لبنان متوسط» يمنح فيه جبل عامل الحكم الذاتي، على غرار دولة السويداء في سورية، وتعاد عدة مناطق ذات أكثرية مسلمة من البقاع الى سورية. واقترح إدّه أن تعلَن طرابلس «مدينة حرّة» تحت الإدارة الفرنسية، يُمنح سكانها المسيحيون الجنسية اللبنانية والمسلمون الجنسية السورية. هكذا تتأمن في «اللّبنان المتوسط» هذا أكثرية مسيحية تصل الى ٨٠ ٪ من السكان، وتسمح بـ«حمايته»، حسب تعبير إده. لم يؤخذ باقتراح إدّه. فقد تجاوزه دستورُ ١٩٢٦ الذي عيّن حدود لبنان.

خلاصة
لم يلبِّ مولودُ العام ١٩٢٠ آمال وطموحات معظم الأهالي الذين لم يؤخَذ برأيهم في رسم حدود بلادهم. عارضت أكثرية المسلمين الكيان الجديد يعبّر عنها «مؤتمر الساحل والاقضية الأربعة» ومؤتمر وادي الحجير في جنوب البلاد، فيما أهالي طرابلس ينظمون التظاهرات ويرفعون العلم العربي معلنين الانضمام الى سورية. من جهة أخرى، كانت أكثرية اعضاء الهيئة الوحيدة الممثلة لسكان جبل لبنان موجودة في المنفى لمعارضتها الانتداب ومطالبتها بالاستقلال، حتى لا نتحدث عن المسيحيين من دعاة الوحدة العربية أو السورية أو من دعاة «لبنان الكبير» المستقل أمثال يوسف السودا وبولس نجيم وخيرالله خيرالله والعديد غيرهم.

ولا شك في أنّ ولادة «لبنان الكبير» زعزعت الاضطراب لدى دعاة «لبنان المسيحي» من أنصار الانتداب المتجمعين في «حزب الترقّي» الذي تأسس عام ١٩٢١ تحت شعار «الحفاظ على استقلال لبنان الكبير في ظل الانتداب الفرنسي». وقد ضمّ الحزب خليطًا من سياسيين ورجال أعمال ومثقفين، بينهم شارل قرم وبشارة الخوري وميشال شيحا وإميل ادّه. غير أنّ الحزب كان قد تفكّك عندما قدّم اميل إدّه مذكرته عن «لبنان المتوسط». ولن يمضي وقت طويل قبل أن يقع الانقسام في هذا التيار بين إميل إدّه (ومعه شارل قرم) وبشارة الخوري (ومعه ميشال شيحا) الذي سوف يهيمن على حياة لبنان السياسية لأكثر من عقدين من الزمن.

ولعلّ جورج سمنة، أحد أبرز دعاة «سورية التامّة» في ظل الانتداب الفرنسي، كان الأوضح تعبيرًا عن مأزق التكبير والتصغير حين تساءل «أي وطن قومي مسيحي هو هذا حيث نصْف سكّانه من المسلمين؟» (زامير، ١١٣) 

لم يبقَ السؤال دون إجابة. تقرّر تجاوز تعريف اللبنانيين بين مسيحيين ومسلمين وإعادة تعريفهم بما هم أقليّات وفق صيغة المستشرق البلجيكي هنري لامنس الذي عرّف لبنان على أنّه «ملجأ الأقليات الدينية»، فتأسس بذلك مبدأٌ جديدٌ تُحتسبُ بموجبه حصّةُ كلّ «أقليّة» من التمثيل السياسي والإداري بناءً على وزنها العددي بين السكان. وقد تكرّس ذاك المبدأ في دستور العام ١٩٢٦، علمًا أنّ مسلسل البحث فيه والمراجعة سوف يتوالى فصولًا في منعطفات عديدة في الأعوام ١٩٣٢ و١٩٣٦ و١٩٤٣ و١٩٥٨ و١٩٩٠ وهو مستمرٌّ إلى يومنا هذا.

أما عن الاقتصاد، فتحقّقت الوحدة الاقتصادية بين سورية ولبنان، عن طريق اعتماد عملة واحدة، ومصرف مركزي واحد، وهيئة تجارة خارجية واحدة، ووحدة جمركية، وعددٍ من الشركات الفرنسية للنقل والكهرباء والمياه والبرق والبريد والاتصالات تخدم البلدين سُمّيت «المصالح المشتركة». هكذا تكرّس دورُ بيروت بما هي المرفأ والعاصمة الاقتصادية لسورية ولبنان، وفوق ذلك، مقرّ إقامة المفوّض السامي الفرنسي.

ومن المفارقات الفاجعة لجدل الوحدة والانفصال بين سورية ولبنان أنّ الاستعمارَ الفرنسيّ وحّد البلدين اقتصاديًّا وتولّى الاستقلاليون في البلدين فصلَ وحدتهما الماليّة والجمركيّة عام ١٩٤٨-١٩٥٠!

مراجع مختارة 

-Chambre de Commerce de Marseille, Congrès français de la Syrie – Séance des Travaux, Marseille,1919.

-Chevalier, D., “Lyon et la Syrie en 1919, les bases d’une intervention”, in Revue Historique, t.224, 1960, pp. 275-320.

-Congrès français de la Syrie, Que Vaut la Syrie ? Rapport de M. Paul Huvelin, Lyon and Marseille, 1919

-Ducruet, Jean, Les capitaux européens au Proche Orient, Paris, 1963.

-Eddé, Carla, Beyrouth la naissance d’une capitale, 1918-1924, Paris, 2013.

-Jouplain, M. (Boulos Nujaym), La question du Liban. Etude d’histoire diplomatique et de droit international, Paris, 1908.

-Kassir, Samir, Histoire de Beyrouth, Paris, 2003.

-Khoury, Gérard D., La France et l’Orient Arabe, Naissance du Liban Moderne, 1914-1920, Paris, 1993.

-Laurens, Henri, Le Royaume Impossible. La France et la genèse du monde arabe, Paris, 1990.

-Salibi, Kamal. A House of Many Mansions. The History of Lebanon Reconsidered, Berkeley, 1988.

-Samné, Georges, La Syrie, Paris, 1920.

-Tobie, Jacques, Interêts et impérialisme francais dans l’empire ottoman, 1895-1914, Paris, 1977.

-Tyan, Ferdinand, France et Liban, défense des intérêts français en Syrie, Paris, 1917.

-Zamir, Meir, “Smaller or Greater Lebanon” – The Squaring of a Circle”, The Jerusalem Quarterly, no. 23, Spring, 1982, pp.35-53.

 

أديب، أوغست، لبنان بعد الحرب، القاهرة، ١٩١٩.

البستاني، سليم، الأعمال المجهولة، بيروت ١٩٩٠.

خليفة، عصام، الحدود الجنوبية للبنان، بيروت ١٩٨٥.

السودا، يوسف، في سبيل الاستقلال، الجزء الأول، ١٩٠٦-١٩٢٢، بيروت، ١٩٦٧

الصلح، كاظم، مشكلة الاتصال والانفصال في لبنان، بيروت، ١٩٣٦.

طرابلسي، فواز، حرير وحديد. من جبل لبنان الى قناة السويس، بيروت، ٢٠١٣.

طرابلسي، فواز، تاريخ لبنان الحديث، الطبعة الخامسة، بيروت، ٢٠١٨.

طرابلسي فواز، سايكس- بيكو- بلفور. ما وراء الخرائط، بيروت، 2019.
 


 [1]  للمزيد عن سايكس- بيكو ومصيره، راجع: فواز طرابلسي، سايكس- بيكو- بلفور: ما وراء الخرائط، بيروت ٢٠١٩

[2]  الأقضية هي: عكار، ضنية، طرابلس المدينة، الكورة التحتا، الكورة الفوقا، الزاوية، بشري، البترون، جبيل، المنيطرة، الفتوح، كسروان، المتن، زحلة، الساحل، بيروت، الغرب، المناصف، الشحّار، الجرد، العرقوب، الشوف، جزين، الريحان، الخرّوب، التفاح، شمر، بشارة، مرج عيون، الحولة، حاصبيا، راشيا، البقاع، بعلبك. وتوزيع السكان الطائفي: يهود ٢٠٦٠، مسلمون ٧٦،٣٦٢، متاولة ٣٦،١٢٠، كاثوليك ٣٢،٤٧٣، أرثوذكس ٦٨،٠٤٠، موارنة ٢٠٦، ١٨٠. المجموع: ٤٨٧،٠٠٠.

(*)
Map of Sykes–Picot Agreement showing Eastern Turkey in Asia, Syria and Western Persia, and areas of control and influence agreed between the British and the French. Royal Geographical Society, 1910-15. Signed by Mark Sykes and François Georges-Picot, 8 May 1916. From the collections of the National Archives - UK

(**):  تعيين حدود لبنان الكبير. القرار رقم ٣١٨ ـ الثلاثاء ٣١ آب ١٩٢٠. بناء على مرسوم رئيس الجمهورية الفرنسية في ٨  تشرين الأول ١٩١٩. 
Haut-commissariat de la République française en Syrie et au Liban, Recueil des actes administratifs du Haut-commissariat de la République française en Syrie et au Liban. odyssee.univ-amu.fr
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها