الخميس 2020/12/17

آخر تحديث: 11:31 (بيروت)

الاقتصاد والطوائف في نشوء لبنان الكبير/ غورو الأب الشرعي(2-3)

الخميس 2020/12/17
الاقتصاد والطوائف في نشوء لبنان الكبير/ غورو الأب الشرعي(2-3)
Carte des communautés religieuses et ethniques en Syrie et au Liban, Bureau topographique des troupes françaises du Levant,1935. f.hypotheses.org
increase حجم الخط decrease
هنا بحث للمؤرخ والكاتب فواز طرابلسي يُنشر في مجلة "بدايات" ٢٨-٢٩، التي تصدر بعد أيام، وتتضمن ملفاً عن لبنان الكبير... وتنشره "المدن" على ثلاث حلقات، هنا الجزء الثاني بعدما نشرنا أمس الجزء الأول.

اقتصاد الحرير
القاعدة الثالثة لاهتمام فرنسا بلبنان هي بلا شك اقتصاد الحرير الذي تعيش عليه أكثريةُ سكان جبل لبنان والذي ترافق تطورُه مع انطلاق موجة واسعة من الهجرة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر سببها تسليعُ الاقتصاد وفشلُ الثورات الفلاحية في استملاك الفلاحين الأراضي التي يزرعونها.

تسعون في المئة من حرير سورية، وجبل لبنان خصوصًا، يذهب الى ليون، ومن ليون يستورد المُزارع بذاره (بيض دود القز). ولمّا كان حرير سورية يشكّل نسبة ضئيلة من مستوردات ليون، كان باستطاعة تجارها فرض الأسعار التي تناسبهم للحرير اللبناني (Chevalier,289) وكانت أبرز الحلالات والمغازل الحديثة مملوكة مباشرة من فرنسيين، ومثيلاتها المحلية تعمل في معظمها بتمويل من رؤوس الاموال الفرنسية تقترضه من المصارف الفرنسية في بيروت التي تتولّى بدورها تحويل أموال المغتربين.

ويقدّم دومينيك شوفالييه وصفًا دقيقًا للعلاقة المتبادلة بين المصالح الاقتصادية الاستعمارية والتبشير الديني والتعليم واللغة: «... لم تكن المصالح الاقتصادية متماهيةً مع مصالح تبشيرية دينية ذات الأهداف الأبعد منها. لكن توازيها في الثمانينيات [من القرن التاسع عشر] حيث الواحدة منهما تعزز الأخرى لا يمكن الا إعطاء وزن لكل منهما. وجد صناعيّو ليون للحرير في بيروت نخبةً تجاريةً تلقّت تعليمًا فرنسيًّا، ووجدوا ايضًا في الجبل المنتج للحرير أهالي يبشّر فيهم كهنةٌ لبنانيون درسوا عند الآباء اليسوعيين. ثم إن تقدم النشاط الاقتصادي الفرنسي خلق من جهة أخرى جاذبًا ثقافيًّا كان اليسوعيون اول من أفاد منه» (Chevalier, 281-282)

(*) 

لبنان على هامش مؤتمر الصلح
شكّلت مجاعةُ العام ١٩١٦ ونزيفُ الهجرة أبرزَ عاملين للمطالبة التي ظهرت عشية الحرب العالمية الاولى بتوسعة حدود متصرفية جبل لبنان بتزويدها بمساحة زراعية وبمنفذ الى البحر. بات واضحًا أن لبنان المتصرفية بلدٌ غير قابل للحياة اقتصاديًّا ولا هو قادر على الاكتفاء الذاتي الزراعي خصوصًا ان معظم عائداته تتأتّى من أموال المغتربين. وقد تلاقى على المطالبة بالتوسعة تياران متقاطعان ومتباينان من أبناء الطبقات الوسطى في بيروت والجبل.

تكوّن التيارُ الاول في الجبل من موظّفي المتصرفية وأصحاب حلالات الحرير والتجار، وقد باشروا، قبيل الحرب العالمية الاولى، بالمطالبة بزيادة استقلالية جبل لبنان وتسليم الحكم الذاتي لأبنائه. وشكّلت تلك التجربة في الحكم الذاتي القاعدة التي سمحت بنمو الدعوة الاستقلالية بينهم.

أما التيار الثاني، فتركّز في بيروت حيت نادت بـ«لبنان الكبير» مجموعة من المثقفين الناطقين بالفرنسية ومن أبناء الطبقة الوسطى المطالبين بالحماية الفرنسية، المتحلّقين حول الشاعر شارل قرم و«المجلة الفينيقية» وكان قرم يجمع بين إحياء الحضارة الفينيقية ونزعة مسيحية استعلائية معادية للعرب والإسلام.

تفاوت دعاة «لبنان الكبير» في تعيين حدود الكيان المرتجى، كما تفارقوا في الموقف من الاستقلال والحماية الفرنسية والعلاقة بسائر أجزاء سورية.[1]

لم يحضر لبنان في مداولات مؤتمر الصلح الذي انعقد في باريس. كان موضوعه مؤجلًا بانتظار بتّ أمر سورية التي تطالب بها فرنسا بينما تحتلّها قوات بريطانية وتحكمها حكومة عربية، برئاسة الأمير فيصل بن الحسين. ومعروف ان الممثل العربي الوحيد في المؤتمر كان الأمير فيصل بصفته أميرًا حجازيًّا وليس بصفته أميرًا ثم ملكًا على سورية.

في آب/أغسطس ١٩١٩، زار البطريرك الياس الحويّك باريس على رأس وفد شارك فيه أخوه سعدالله بصفته نائبًا لرئيس «مجلس إدارة» جبل لبنان. طالب الوفد بالعودة الى لبنان «الطبيعي» و«التاريخي» بناءً على الخريطة التي وضعتها الحملة الفرنسية عام ١٨٦٢. حظي البطريرك بلقاء سريع مع رئيس الوزراء كليمنصو الذي وعده في آخر أيام المؤتمر بالموافقة على ضم سهل البقاع و«مرافىء مناسبة» ودعاه الى أن يطالب في المقابل بالحماية الفرنسية للبنان. وقد فعل.

عشية مؤتمر الصلح، تم اتفاق أولي على تسوية النزاع البريطاني الفرنسي حول مصير الشرق العربي في اجتماع بين كليمنصو ولويد جورج في السفارة الفرنسية بلندن. بعبارات مقتضبة، تنازل كليمنصو للويد جورج، ممثل الدولة التي تحمّلت القسط الأكبر من أعباء الحرب، وصاحبة الوجود العسكري الأكبر في الشرق الأدنى، عن القدس، التي كانت تحتلّها قواتُ الجنرال اللنبي منذ نهاية العام ١٩١٨، وعن ولاية الموصل، لقاء حصة من نفط الموصل. وكان المضمر ان المقابل هو التسليم البريطاني بسيطرة فرنسا على سائر سورية. لكنّ التشبّث البريطاني بإمكان حرمان فرنسا من أي وجود في المشرق كان قويًّا يحظى بدعم حماسي من قسم كبير ونافذ من المعنيين بالمنطقة في الإدارة البريطانية. ضغط البريطانيون على الأمير العربي للتخلّي عن فلسطين. ارتضى فيصل التفاوض مع حاييم وايزمان، بواسطة لورنس، على ورقة تفاهمٍ اعترف فيها الأميرُ بإعلان بلفور وبالحقّ في الاستيطان اليهودي في فلسطين مع تحفّظه بأنّ تنفيذ هذين الالتزامين مرهونٌ باعتراف مؤتمر الصلح بالدولة العربية في سورية.

حاول الرئيس ولسن التدخل في النزاع بين كليمنصو ولويد جورج باقتراح تشكيل لجنة ثلاثية لتقصّي رغبات سكان المنطقة فرفضت الحكومتان البريطانية والفرنسية المشاركة فيها على اعتبار ان نتائجها سوف ترجّح نزعة الوحدة والاستقلال لدى شعوب المنطقة. فتحولت لجنة كينغ-كراين، على اسم رئيسَيها، الى لجنة استشارية للرئيس الاميركي.

انسحبت القوات البريطانية من دمشق في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩١٩. وفي مطلع ١٩٢٠، توصل لويد جورج الى عقد اتفاق بين كليمنصو وفيصل وافق بموجبه الأخير على أن يكون ملكًا على سورية في ظل الانتداب الفرنسي الذي سوف يتمثّل بمفوّضٍ سامٍ مركزه حلب. وقضى الاتفاق بأن تكون بيروت مدينة حرة، لسورية ولبنان حقوق فيها وهي إلى ذلك عاصمة فرنسا في المشرق. وارتضى فيصل ايضًا بوضع «لبنان» تحت الانتداب الفرنسي على ان تحدَّدَ حدودُه لاحقًا، علمًا بأنه أقرّ لدعاة الاستقلال بين اللبنانيين بـ«لبنان» مستقلّ سياسيًّا لكنه موحّد اقتصاديًّا مع سائر سورية.

أنهى مؤتمر الصلح بباريس أعماله دون حسم موضوع الانتدابات في الشرق. تولّاها مؤتمر سان ريمو في نيسان/ أبريل ١٩٢٠ مانحًا فرنسا الانتداب على سورية وبريطانيا على فلسطين والعراق دون تعيين حدود لأي منهما. وفي حزيران/ يونيو ١٩٢٠، أعلن ألكسندر ميلران، رئيس الوزراء الفرنسي اليميني الجديد، إلغاء اتفاق كليمنصو- فيصل عمليًّا. وفي ٢٥ تموز/ يوليو، احتلّت قواتُ «جيش الشرق» الفرنسية دمشقَ وأطاحت الحكومة العربية.

غورو الأب الشرعي لـ«لبنان الكبير»
كان إنشاء لبنان الكبير الى حد كبير «ابن ساعته»، تبلورت معظم ملامحه وحدوده بين تموز/ يوليو وآب/أغسطس ١٩٢٠؛ لكنها سوف تظلّ موضع تجاذبٍ خلال عقد من الزمن على الاقل.

بعد أيام من احتلال دمشق، يوم الثالث من آب/ أغسطس، أعلن غورو في مدينة زحلة ضمَّ البقاع بأقضيته الأربعة حاصبيا راشيا والبقاع (أي زحلة والبقاع الاوسط في التسمية الحالية) وبعلبك إلى جبل لبنان. اما الخطوات الباقية فكانت موضع نقاش وخلاف بين كبار موظفي الانتداب والحكومة المركزية. كان الشاغل الأبرز هو كيفية السيطرة على سورية، بما فيها الأراضي اللبنانية، وقد اندلعت فيها الموجة الاولى من الانتفاضات ضد الانتداب. كان روبير دوكيه، أمين عام المفوّضية السامية في بيروت، والواسع النفوذ لدى ميلران، يدعو إلى تقسيم سورية إلى حوالي عشر دويلات على أساس مذهبي بينها «مدن حرّة»، هي بيروت وطرابلس واسكندرون، على ان تدار كل الدول على أساس الحكم الذاتي الداخلي ويلعب المفوض السامي دور الحكم في خلافاتها. (ِEddé, pp. 100-10) ومعروف عن دوكيه معارضته الحاسمة لاتفاق كلمينصو- فيصل وعداءه لـ«لبنان الكبير»، ساخرًا مما أسماه «هلوسات الشعور بالعظمة المسيحية» لدى دعاته ومحذّرًا من ضم المناطق المسلمة من طرابلس والبقاع وعكار الى الكيان الجديد لأنها تحمل خطرًا يهدد استقرار الدولة المسيحية المقبلة. وكان اميل إده، أبرز دعاة لبنان المسيحي بين السياسيين اللبنانيين، قد سعى في باريس بالاتجاه ذاته، لكن كل ما حظي فيه بعد انتظار طويل هو لقاء مع موظف مغمور في الخارجية الفرنسية، هو السيد بارجتون Bargeton، في ٧ أيار/ مايو ١٩٢٠ الذي أبلغه أنّ بيروت ستكون مدينة حرّة وأنّ طرابلس لن تعطى للبنان، كما أكد له أن لبنان الكبير سوف يضمّ الضفة اليسرى من نهر العاصي، أي منطقة بعلبك-الهرمل. (خوري، ٣٥٦-٣٥٧)

انطلاقًا من شاغل الضبط والسيطرة ذاته، كان غورو واثقًا من قدرته على السيطرة على سورية بنسبة أقل من التجزئة. كتب الى رئيس الوزراء ألكسندر ميلران: «سوف يكون اسهل علينا إقامة التوازن بين ثلاث دول [سورية] ومجابهة كل واحدة منها بالأخرى إذا لزم الأمر» (أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية، ٢٠ آب/ أغسطس ١٩٢٠، المجلد ٣٢، ص ١٨٨-١٨٩، وطرابلسي، تاريخ لبنان، ١٤٤) وافق ميلران على انشاء «لبنان الكبير» بضم الاقضية الأربعة إلى جبل لبنان، ولكنّه تحفّظ على ضم طرابلس وبيروت. وكتب الى غورو في ٢٣ آب/ أغسطس ١٩٢٠ يقول إنّ ضم المدينتين «لا يشكّل فائدة للمدينتين ولا للبنان ذاته» ودعا الى فترة اختبار تحافظ خلالها طرابلس «وضاحيتها المسلمة» على مقدار كبير من الاستقلال الذاتي الإداري والمالي، «ما يوفّر الوقت لمراقبة كيفية تصرّف الأطراف المعنية بعضها تجاه بعض». بعبارة أوضح: إفساح الوقت لمراقبة تصرف الوافدين الجدد من المسلمين في علاقتهم بالمسيحيين والكيان الجديد. واستدعى ميلران قائد جيش الشرق الى باريس لمواصلة البحث على اعتبار أنّ «مثل تلك الأمور لا تُحلّ بواسطة البرقيات» (خوري، ٣٩٦-٣٩٨)

استبق الجنرال العودة الى باريس وأعلن، في ٣١ آب/ أغسطس، فصل الجبل والساحل والاقضية الاربعة عن سائر سورية وإنشاء «دولة لبنان الكبير». كما أعلن في اليوم نفسه قيام دولتَي دمشق وحلب، ودولة العلويين، وضم اليهما دولتَي العلويين والسويداء (جبل الدروز) في آذار/ مارس ١٩٢١، ليشكل منها مجتمعةً «اتحاد الدول السورية».

عند التساؤل لماذا أصرّ غورو على زيادة عدد المسلمين في «لبنان الكبير» بضم طرابلس، لن نلقى جوابًا إلا تأمين احتكار مرفأ بيروت لتجارة سورية والداخل العربي ومنع مرفأ طرابلس من ان يتحول الى مرفأ الشمال السوري.

هكذا جزّأ غورو سورية الى خمسة كيانات على أساس ديني مذهبي: دولة ذات غالبية درزية، دولتان ذات غالبية سنّية، ودولة ذات غالبية علوية. والمفارقة الفاقعة أنّ الدولة المفترض ان تكون الدولة المسيحية انفردت دون الدول الاربع في ان تركيبها السكاني شبه متوازن بين مسلمين ومسيحيين.

لم تكن خطوة غورو بعيدة عن العلاقة الوثيقة التي تربط المصالح الاقتصادية الفرنسية بالعسكر الكولونيالي. سبق ان اقامت غرفة تجارة ليون حفل استقبال على شرفه، يوم ١١ تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩١٩، عشية سفره الى سورية لتولّي مهامه قائدًا عامًّا لجيش الشرق ومفوّضًا ساميًا لفرنسا في سورية. عرض عليه رجالُ الأعمال مطالبهم: تثبيت النقد، منع قطع الأشجار للتدفئة من اجل تزويد معامل الحرير بالوقود، التعويض على خسائر فرنسيي الشرق بسبب الحرب، إلزام السوريين باستيراد البضائع الفرنسية وغيرها. وكان المطلب الأبرز هو ما جاء في كلمة الصناعي غيدو: «السوريون يملكون الذهب، والذهب يتدفق عندهم. خلال الحرب، أثرى السكان، بالطرق الشرعية وغير الشرعية، إن سورية بلد ثري جدًّا، ويهمّ، نظرًا لماضي العلاقة بيننا، أن نثْمر هذه الثروة لصالح فرنسا. ولما عاد غورو الى فرنسا، بعد انتهاء خدمته كمفوض سام لفرنسا في سورية ولبنان، احتفلت به غرفة تجارة ليون مجددًا في ٥ نيسان/ أبريل ١٩٢٢. وفاخر السيد براديل، رئيس الغرفة، «يمكننا القول في ليون إننا نعتبر سورية مستعمرة ليونية» فرفع الجنرال كأسه وأعلن «أيها السادة، الصفقة سوف تكون مربحة». (طرابلسي، حرير وحديد، ٢٨٨-٢٨٩)


[1]  يمكن الاطّلاع على تفاصيل التيارات الفكرية والسياسية عشية تأسيس «لبنان الكبير» في كتابات بولس نجيم ويوسف السودا وألبير نقاش وجميل المعلوف وعارف النعماني في أماكن أخرى من هذا العدد من «بدايات».

(*) Couverture du rapport Que vaut la Syrie, rédigé par Paul Huvelin, édité par la Chambre de Commerce de Couverture  Marseille, 1919


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها