بهذه العفوية توسّعت نشاطات المحترف ما بين جلسات "على أمل" الدوريّة، في الخميس الأخير من كل شهر. فعُرِض ونوقِش فيلم المخرج الإيراني عباس كياروستامي "أين منزل صديقي؟". وفي جلسة أخرى عُرض فيلمان قصيران للمخرجَيْن من أبناء زغرتا طوني خوري وإيفلين حليس وجرى نقاش مستفيض حولهما. وفي هذه الأجواء الموسيقيّة أيضاً أحيا الدكتور والفنان سعيد الولي سهرة حول سيمفونية "شهرزاد" لريمسكي كورساكوف، شارحاً حركاتها ومعانيها، وقد رافقه في بعض الفواصل، عزفاً على البيانو، لوستينا البايع وآدو مورا، وهما من المشاركات الدائمات في نشاط المحترف.
كلّ هذه النشاطات لم تأتِ وفق برنامج موضوع بل كانت وليدة اللحظة، فكرة طارئة تلاقي استحساناً وحماساً، وهذ ما يجعل سميح زعتر يؤكّد في حديثه معنا أنْ "لستُ من دعاة الأجندة، بل أفضّل أن تكون الفكرة بنت اللحظة والعفويّة".
لمواجهة الأزمات والحروب
نسأل زعتر عن ردود الأفعال على نشاطات المحترف، فيؤكّد أنّ هذه النشاطات، وخصوصاً بعد نشر أخبارها على وسائل التواصل، قد لاقت إعجاباً واستحساناً عند الحضور، وعند الجمهور البعيد الذي راح يطالب بإبلاغه أو بدعوته إلى موعد النشاطات، وهكذا رأينا حجم الحضور على تزايد، وطبعاً هذا بفضل المشاركين في التحضير والتنظيم والتقديم والعرض "وأودّ أن ألفت إلى أنّ أهمّ ردّ فعل عند الحضور كان تعبيرهم الصريح عن مدى حاجتهم في زغرتا إلى هذه الفسحة وهذه النوعيّة من النشاطات الحيّة". وهنا يمكن أن ندرج رأي الشاعر فوزي يمّين، المشارك والمنشّط في هذه اللقاءات، القائل بأن ما لمسناه، وما يجب أن "نعمل عليه عبر نشاطنا هذا، هو مواجهة ضغط الأزمات، والحروب على الأخصّ، بالفنّ والثقافة وبثّ الحيوية في مجتمعٍ يرفض الموت المقصود والمنظّم".
سفرٌ خارج الزمان والمكان
نقول لسميح أنّنا لاحظنا حضور أناسٍ عاديّين في سهرات المُحْترف، وهم ليسوا معنيّين بالأمر إلا بكونهم من سكان الحيّ وجيران المحترف، وهذا أمر يستحقّ التقدير. يوافق سميح ويضحك قليلاً: "كما تعلم هناك في القصائد أو الأفلام، إيحاءات أو كلام في الجنس، فعبّر لي هؤلاء الناس في ما بعد عن رأيهم السلبيّ في ذلك، متمنّين لو لم تكن أمور من هذا النوع، لكن من دون نفور، وبمحبة طبعاً، لأنّهم كما عبروا لي أيضاً، مع ارتباطهم الوثيق بهذا المكان، وعدم خروجهم منه، وجدوا أنفسهم أمام عالمٍ جديد ماثل أمامهم، وكأنّ هذه الليالي القليلة تأخذهم في سفرٍ خارج المكان والزمان".
ونستوضح سميح إن كانت هناك ردود أفعال من خارج المنطقة، فيقول إنّ الفكرة، وطبيعة النشاطات، ونوعيّة الحضور، قد أثارت كلها إعجاب الكثيرين خارج زغرتا، والذين لفتهم أن يكون في زغرتا البعيدة من العاصمة كل هذه الهمّة والنوعيّة، حتى أنّنا نتلقى أحياناً دعوات لأنْ نوجّه إلى البعض دعوات للحضور، أو أنّ بعض المعنيّين بعالم الفنون اقترحوا أو طلبوا أن يعرضوا ما عندهم في المحترف.
عين على التراث المُثري
وعن نشاطات هذا الموسم، 2023-2024، يؤكّد سميح زعتر ما قاله من قبل، من أنّه باستثناء النشاط الدوري الثابت "على أمل" (آخر يوم جمعة من الشهر لهذا الموسم)، لا أجندة محدّدة وثابتة. الباب مفتوح أمام كلّ فكرة تحظى بالقبول، وتشكّل فسحة تعبيريّة أو تثقيفيّة قيّمة. هناك بعض الأفكار المشاريع. يرى بعض المشاركين، وأنا معهم، ضرورة إحياء ذاكرة زغرتا الزاوية، وتسليط الأضواء على المشاهير من أبناء زغرتا، الذين صنعوا اسماً لهم وللمنطقة في لبنان والعالم، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الفنان صليبا الدويهي، والمخرج يعقوب الشدراوي، والفنان سايد يمين، وغيرهم كثيرون. وربما نولي أهمّية لتاريخ النشاط المسرحيّ في زغرتا التي شهدت الكثير من الأعمال المسرحيّة القيّمة، ومنها أعمال فرقة "الديوان" التي نشطت ولاقت نجاحاً في ثمانينات القرن الماضي، ومعظم أعضائها موجودون ومتواجدون بيننا ويمكنهم أن يعطوا فكرة وافية عنها. كما لم يخلُ تاريخ المنطقة من مساهمات سينمائيّة وتلفزيونية قد نضيء عليها أيضاً.
ويؤكّد زعتر أنه في موضوع تاريخ المنطقة الثقافيّ والفنّيّ، "نلتقي بالتأكيد مع "جمعية ذاكرة زغرتا الزاوية" التي تأسّست حديثاً، ويمكن أنْ نساهم معها في الكشف عن هذه الذاكرة وإعادة إحيائها بأشكال ونشاطات مختلفة ومتنوِّعة". ويضيف أنّه يولي أهمّية أساسيّة للماضي، فلا يفترَض بالإنسان والمجتمع أن يُهمل ماضيه، فـ"من أجل حاضرنا ومستقبلنا، نحن نغرف من الماضي ثم نعود ونرمي فيه".
حرّية وتماهٍ بين الأجيال
وهل من شروط أو ضوابط معيّنة على المشاركين؟ يجيب سميح أن لا شيء من هذا، الأمر الوحيد هو أنّنا تلقائيّاً بعيدون من التعاطي المباشر بعالم السياسة، وفي ما تبقّى تُترك للمشارك حرّية التعبير. وليست غايتنا في الأساس اكتشاف مواهب، بل نحن كمَن يؤمّن مساقاً معيناً للأمور، ثم لكلّ فرد أن يجد مكانه وطريقه في هذا المساق.
كلّ ما يقدّمه المحترف هو الجوّ العام، وخبرة بعض القدامى أو المخضرمين. وهذا ما نأمل أن يستمرّ، فالأمر لم يعد محصوراً بفئة معيّنة أو عمرٍ كما يقول الشاعر دجو القارح، صاحب فكرة "على أمل"، "فنحن نجد في الجلسة الواحدة جيلَيْن، لا بل ثلاثة أجيال، يتخالطون ويتفاعلون في ما بينهم على إنتاج كل ما هو جميل ومُفْرِح ومفيد. ولذلك أتمنّى أن تنمو هذه العلاقات وتدفع في اتّجاه ظهور وجوه جديدة تفرض نفسها في مجال إبداعها".
وعن السؤال الأخير إلى سميح حول ما يتمنّاه، يجيب بكلّ صراحة إنّه يتمنّى أن تدوم الهمّة وتنمو أكثر فأكثر، لكي تشكّل حافزاً للآخرين الجدد على المشاركة، وهو يوجّه، وباسم المجموعة، دعوة صريحة إلى المشاركة بكلّ ما يمكن إبداعه، فالمحترف في النهاية هو أشبه بمنصّة انطلاق إلى فضاءات الفكر والفنّ والجمال والإبداع. إنّه يتوجّه إلى الإنسان ليعبِّر عن إنسانيّته السّامية.
زحمة في ليل الأزقَّة
لو زرت المحترف أو مررت في الشوارع الضيّقة المفضية إلى محترف سميح زعتر، يوم نشاطه في اوّل الليالي، لطالعتك أمام واجهته الزجاجيّة على الطريق عند مدخله، زحمة مجموعات من شابات وشباب، ونساء ورجال، في أحاديث ومداولات على الواقف، قبل بدء النشاط أو بعده، وتحت الأضواء الخارجة منه لتنير العتمة التي فُرِضت فرضاً على هذا الوطن، كما يبثّ هو الحياة في تلك الأزقّة الضيّقة وينفخ فيها نفَساً غير نفَس اليأس والانهزام. وربما سمعت أحد جيران المحترف ينادي سميح من دون "أستاذ" ولا أي مجاملات، ليقول له بلهجته الزغرتاويّة القحّ والصّادقة: "سميح! ليش وقت بيكون عندك شي ما بتقول للجيران، منشيل سياراتنا من هون تا يقدروا الضيوف يوقفوا سياراتن، أحسن ما يوقفوا بعيد ويجوا مشي". وربما سمعنا سميحاً أو أحدهم يجيبه وباللهجة الزغرتاوية نفسها: "شو عليه، البيت الضيّق بيساع ألف محبّ". ونحن نضيف: "... وألف عاشق فنّ وفرح"!
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها