إنّه الأمل الذي يحدو الشاعر يمّين على تحدي اليأس والبؤس، وعلى صناعة الحياة من لا شيء، من تحت الركام ومن فوقه. الأمل الذي وزّعه في عناوين فصول كتابه الثلاثة، في اقتباسات من هنري ميللر وبرتراند راسل، وكلها توحي أو توصي بضرورة الاعتراف بواقع الحياة كما هي، لا كما نتمنّاها، وفي ذلك طبعاً تخفيف من خيبات الأمل ومن اليأس، وبذلك يمكن أن نأمل بتحقيق شيء من السعادة.
السعادة المتوّخاة يسعى إليها يمّين بإدارة ظهره للحياة كما هي جارية، ويعود إلى مظاهر الحياة المتولِّدة والمتجدّدة حوله في الطبيعة. كأنّ سعادته هنا هي كما حلّلها كونديرا، تتحقق بالاستبعاد والحذف والإلغاء والتخلّي عن السير في الخطّ المستقيم إلى هدفٍ قد نعرف سلفاً أنّه لن يتحقّق، والالتفات إلى الأمور البسيطة القائمة والثابتة نعود إليها ونتمتّع بها باستمرار.
هذه النزعة إلى التخلّي ما هي إلا تعبير عن نقمة على العالم، وعلى الحياة كما تُصنَع لنا وتُفرض علينا، بويلاتها وأهوالها. ولذلك يصبّ يمين جام غضبه على السياسيّين ويستضْيِع حتى البصقة في وجوههم، ويحضّ على الثورة، وذلك كله في لغة صريحة ومباشرة أحياناً، وبالسخرية المرّة والتورية أحياناً أخرى.
وإذا كانت لا تكفي الإنسان الأقدار، العامة والخاصة، "ألا يحق للإنسان أن يموت وحده بسلام ما دام لا يستطيع أن يعيش كذلك؟".
أن يموت بسلام، وأن يعيش بسلامٍ أيضاً، فهناك الثورة، وهناك الأمل في الثورة، "الأمل الطالع من آخر اليأس" الذي لا يمكن لأحد أن يتحكم به ويقوده ويوجّهه حتى الذين دأبوا على صناعة مآسينا.
أعتقد أن فوزي يمّين، الذي غالباً ما نظر إلى الحياة بشيء من السوداويّة والاستهزاء والعبثيّة في مؤلّفاته، أراد في نصوصه هذه "أن يخفّف من وطأة الألم واليأس بزرع الأمل في النفوس ومراودته لكي يصبح العدم أخفّ وطأةً، فيمكن التآلف معه وتحويله إلى وجه من وجوه حياتنا اليوميّة، إن لم يكن بإمكاننا العودة إلى "رتابة" الحياة السابقة. وهو بدل الانسياق وراء العدم، يستدرجه إلى ساحته ويبث في نفَساً، روحاً لحياةٍ متجدّدة لا محالة.
وهو في السياسة لا يحلّل ولا يعِظ، يكتفي بتفجير غضبه وسخطه في وجه مجرمي الوطن الكبار، يجابه، أقلّه بالكلمة النافذة والجارحة، مذكّراً بإنسانيّة الانسان في وطنه، ومذكّراً مواطنيه بإنسانيّتهم، لائماً إياهم أحياناً ومحفّزاً أحياناً أخرى، مبدياً الاستعداد لبذل الذات في سبيل التخلّص من الوضع القائم:
"لا طاقة لي بهذا الخراب.
لذلك لا تلوموني على بقائي في البيت.
خذوا يدي وساعِدوا بها.
خذو عيني وراقبوا.
خذوا فمي وتفوّهوا بالمواساة اللازمة.
خذوا ما تبقّى من قلبي وامنحوا خفقاته".
وبقدر ما تعظُم في نظره هذه الانسانيّة بقدر ما تعظُم خطيئة سياسيّي هذ الوطن.
الانهيار، الثورة، الكورونا، انفجار المرفأ، مواضيع ساخنة استنزفت الأقلام والألسنة وما تزال. ويُضاف إليها، مع فوزي يمّين، ما عاشه وعاناه هو نفسه. لكنه على غزارة العاطفة والتعبير، وسمو الخيال وانفتاحه على آفاق واسعة، اكتفى عموماً بالتعبير المقتضّب الخاطف، باللمحة العابرة وكأنها إشراقة لا يريد أن يتأخّر عنها فتفلت منه، فجاءت نصوصه مجموعة مقاطع، لا تتعدّى السطر الواحد أحياناً، مستقلّة ومتّصلة في آنٍ معاً، تجمع ما بينها الحالة الانسانيّة العميقة والتعبير الرشيق السريع، كأنّ الشاعر على عجل، أو كأنه يجاري دفق العواطف والأفكار في نفسه الثائرة.
في هذا الاقتضاب تكثيف للحظة الشاعريّة، واختزال للحالة الضاغطة وإسقاط لكلّ نوافل القول وابتعاد عن الثرثرة البكائيّة أو الإدِّعائيّة، للذهاب مباشرة إلى الجوهر، إلى الصورة الشعريّة البكر الكافية والوافية. وفي ذلك ما يكشف مرحلة نضجٍ فكري وشعري على حدٍّ سواء في مسيرته الأدبيّة.
وهو وإن اعتمد أحياناً، وعن حقّ، السخرية والإضحاك ("نخرج أو لا نخرج" تصبح صنو "نكون أو لا نكون" لشكسبير) والاستخفاف بالمواقف والسلوكيات السطحية السخيفة، من مثل تلهّي البعض بأخذ صور السلفي في ظل الأزمات الخانقة، إلا أنّه في تساؤلاته المقتضّبة عمقاً وأبعاداً سامية في تناولها قضايا وجوديّة تقارب بشكل وثيق الفكر الفلسفي الأكيد إذا ما تمّ التوسُّع فيها"... تبدو وظيفة الفلسفة في أيّامنا هذه أنّها لا تتعلَّق بالحكمة، كما عند أرسطو، بل بالحماقة والتفوّه بأكثر الأشياء سخافة وتهوّراً، وفي ذلك جانبٌ مضيء من الحقيقة". وفي الموقف من الشعر والشعراء، الواقعي السلبيّ أحياناً، عن دوره في إظهار الحقيقة: "هل الحقيقة موضوعيّة أم ذاتيّة؟"، تساؤلات تجعلنا في خضمّ تساؤلات فلسفية حقيقيّة.
لكن ما بين المأساة والعلاج، وبين الكارثة وحلولها، وبين الفوضى والانتظام، وبين الطارئ ورتابة الحياة، وبين اليأس القاتل والأمل المقاوم، يترك فوزي يمين نافذة مشرّعة على غدٍ أجمل، على حياة ستُستعاد، وتسير في مجراها الطبيعي. هذا ما يرميه أحياناً ومضاتٍ في قفلات نصوصه "الحياة باقية، تجدّد نفسها بنفسها" و"أُريد فقط أن أستعيد رتابة الحياة"، كما أوحى به في القطعة الأخيرة في خاتمة الكتاب "على مشارف الفراغ"، فهو وإن بدا أحياناً منكسراً صاحب "انتصارات وهميّة وهزائم مجيدة" إلا أنّه بإمكاننا أن نلملم من ثنايا نصوصه بريق الأمل والخلاص الآتي: "بيروت اليوم حزينة، لكنّها ستعود وتطلّ علينا بفرحٍ عظيم"، ولا شكّ في أنّ بيروت هي البؤرة والبوتقة لكلّ "العودات" المرتجاة والميمونة، وهذا ما يتردّد هنا وهناك في كتابه "الاستئناس بالعدم"، مشكّلاً صدى لذات الشاعر فيها الذي بالرغم من انكساره المعلَن يأبى الإنكسار:
"بالرغم من كلّ ما يجري، ما زلت أسمع الحياة تقول: البنفسجة المرميّة تحت حافّة الطريق ستُعيد بهاء الحقل، العصفور الوحيد كفيل باسترجاع السماء، وما تبقّى من هواء في رئة طفلٍ بائس سيردّ الروح إلى جسد العالم".
___________________
[1]. يمّين، فوزي، الاستئناس بالعدم، (في الحجر والثورة والانفجار والانهيار)، دار النهضة العربيّة، بيروت، 2023/2024، 299 صفحة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها