حرارة آب اللهّاب... وزينة تخرج إلى البلكون، تشاهد جارتها تحمّم طفلها، تتبادلان الحديث، ولا يلبث أن يهتزّ الكون ويرتجّ... إنّه انفجار مرفأ بيروت، الانفجار الثاني الأعنف بعد الانفجار التكويني الأوّل. وتكرّ سبحة الأحداث المتسارعة. زينة وماري تحت الأنقاض، وصول بشرى في حالة هلع، يصل مسعفون يساعدونهما، جاد ابن فيصل وسوسن يتّصل من أميركا، يريد الاطمئنان على أهله، تصرّ زينة على الذهاب والاطمئنان عليهما وتضطر بشرى إلى مرافقتها سيراً، لأنّ السيارة تحطّمت.
ونعود إلى المسار المعاكس، ما رأت زينة في طريق عودتها إلى البيت، وما رأت من نتائج الانفجار، الذي لم تشهد "فعله" لحظة حدوثه على الناس والمعالِم التي رأت فيها نفَس حياة في طريق عودتها. المشهَد الأبوكاليبتي وهول ما حدث في شريط يكرّ أمامنا عبر عينيّ زينة. ويتفادى الكاتب الوصف المباشر للحطام والدمار، ليركّز على صور ومشاهدات، وربّما ابتداع تخيّلات، تنبئ بانتهاء العالم. من المبنى والمباني المجاورة إلى الشوارع، الأم التي انقسم طفلها بين يديها، جثث ملقيّة مادّة اليد كأنها تستعطي الخلاص، تصوّر ما حدث للناس، وللممرضة التي شاهدتها، ولأهلها في المستشفى الذي مرّت به.
صور الطير الأسطوري الكاسر يعترض طريقهما، من أكلة اللحوم، ومشهد الأسماك التي وقعت من الأكواريوم وارتوت من دماء الجرحى، أو مشهد الجردان تنهش جثث القتلى. مشاهد مقيتة مرعبة وليدة الواقع والتخيّل في آنٍ معاً، للتعبير عن أجواء الفناء هذه. وأكثر ما يسود ويتكرّر وسط هذا الصمت هو صوت الزجاج المتكسّر، تحت الأقدام، وفي تهاويه من الشرفات أو النوافذ العالية، وفي انهماره على زينة وابنتها، حتى تضطرّان إلى الاحتماء منه كما بالمظلّة من المطر. وصولاً إلى بيت مخدومَيْها حيث ينحو السَّرد والوصف نحو المتخيّل-الافتراضيّ- الاستباقيّ، ما بين الخارق والفانتازي القاتِم. الدمار في البيت، والزجاج، دوماً الزجاج. والأستاذ فيصل أمام التلفزيون مدرك أو منتبه، أو "ليس منتبهاً ولا مُدرِكاً"، و"زينة غائبة في فراغ الباب"، وابنتها بشرى "كأنّها لا شيء في لامكان". كأنّ الحياة كلّها تحوّلت فراغاً، وانبعث شيءٌ ما ينبئ بالمستقبل، وفي سردٍ افتراضي يُشعل الأستاذ فيصل التلفزيون (من أين الكهرباء في هذه اللحظة؟ إنّه الافتراض) وتكرّ المشاهد متسارعة، الصفحات المتقلّبة على الشاشة تنبئ بما سيأتي، وما ستؤول إليه الوقائع والأحداث بعد هذا الانفجار الكبير...
شريط تصويريّ
نحن في رواية رشيد الضعيف هذه، أمام شريط أحداث عاديّة، تتسارع شيئاً فشيئاً لتمتلئ وتملأنا باللحظات الأولى التي أعقبت انفجار مرفأ بيروت العام 2020. هذا ما يمكن استشفافه من العنوان، حيث فعل الرؤية يتكرّر مرّتين، إيجاباً وسلباً، ثمّ من المقاطع الموجزة والسريعة التي تبدأ بها الرواية، مع عناوينها التي تحدّد المكان الذي يحتوي الحدث أو المشهد مع أوصافه أحياناً:
- على بلكون شقّة أنيقة
- زينة في المطبخ
- في الصالون
- زينة تبدّل ثيابها
- في الصالون مرّة أخرى.
- زينة تنزل بالمصعد.
- زينة في الخارج.
وعلى هذا المنوال يحدّد الكاتب الأماكن (المشهد) والموضوع (الأفعال) مع التعليمات أو التوجيهات (Indications scéniques)، في فصول قصيرة ومحدودة إلى حدٍّ بعيد، وهو ما يُحيل إلى عمل "تقطيع المشاهد" في التصوير السينمائيّ. وتتسارع هذه المشاهد وصولاً إلى المشهد النهائي المذكور، الذي يتحوّل شيئاً فشيئاً خارجاً عن الواقع والمألوف، ليحملنا الكاتب استباقيّاً (Projection) إلى مستقبلٍ، تتقلّب صفحاته في شاشة التلفزيون، كما في البطاقات المتقلّبة (Cartons) في نهايات الأفلام (Générique Fa) والتي تَسْرد كتابيّاً ما حدث أو ما سيحدث بعد الوقائع المسرودة قصّتها في الفيلم (وهنا في الكتاب-الرواية). وبذلك يصبح منظر الزجاج وأصوات تكسّره نوعاً من موسيقى تصويريّة تزيد، وسط الصمت المَهيب، من الإحساس بهول الكارثة وفظاعة المشاهِد.
رواية "ما رأت زينة وما لم تَرَ" أشبه، إذاً، بشريط تصويريّ، كثّف فيه الضعيف المشاهدات في حيّز محدود في المكان والزمان، وهو ما أكسَب الرواية عمقاً، عبر التركيز على حركةٍ وحيدة تقريباً (إياب وذهاب زينة في ساعتين أو ثلاث على الأكثر) ورشاقةً خاطفة تجعل الرواية قابلة للقراءة في مدّة وجيزة، هي عموماً مدة مشاهدة الفيلم الواحد.
موقف غير مُحايِد
وليس رشيد الضعيف محايداً، حتى وإن ترك للعين أن تنقل المشاهدات وحسب، فمن وقت لآخر، تفلت في بال الأبطال أو على لسانهم تعابير الضيق والاستياء من الأوضاع الاقتصاديّة والخدماتيّة العامة المتردّية "لم تدرِ زينة أنّ زجاج الشفافيّة والطهر انهار على الناس جميعاً، وقتلهم قتلاً همجيّاً يندر مثله" أو تعابير الاتّهام في حقّ من تسبّبوا بهذه الكارثة على لسان جاد ابن مخدومَيْها: "حاطّين قنبلة ذرّية بنصّ المدينة! عم يلعبوا يا زينة، عم يلعبوا. مفكرين حالن كبار، مفكّرين حالن عم يصنعوا التاريخ!".
رشيد الضعيف يثابر على التجريب، من رواياته الواقعيّة الأولى، وتجريبه ضمن هذا السياق، في مختلف مراحل تطوّر رواياته، إلى تجربته في روايتَيْه السابقتَيْن أدبَ الأسطورة والخرافة ("الأميرة والخاتم" و"الوجه الآخر للظلّ")، وها هو هنا يقدّم تجربة جديدة، روايةً أقرب إلى سيناريو أو سكريبت لفيلم سينمائيّ، عسى أن تتمكّن السينما اللبنانيّة من خوض غمار هذه التجارب، أعني تحويل الروايات المُتْقَنة والجادّة إلى الشاشة الكبيرة.
(*) ما رأت زينة وما لم تَرَ، دار السّاقي، بيروت، 2024، 111 صفحة. والكاتب فاز قبل أيام، بجائزة "محمد زفزاف للرواية" العربية، في الدورة الثامنة، لمؤسسة "منتدى أصيلة"...
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها