السبت 2023/01/07

آخر تحديث: 13:26 (بيروت)

"احتضار عند حافة الذاكرة" لأحمد الحرباوي...مدينة الخليل تكثيف فلسطين

السبت 2023/01/07
"احتضار عند حافة الذاكرة" لأحمد الحرباوي...مدينة الخليل تكثيف فلسطين
increase حجم الخط decrease
يعكفُ أحمد الحرباوي (1991) في روايته "احتضار عند حافة الذاكرة" الصادرة حديثاً عن (دار نوفل 2022)، على بناء حكايته بمرونةٍ ملفتةٍ تُعزّزها أحداث من عمقٍ تاريخيّ مرّ على مدينة الخليل الفلسطينيّة، أيام الاحتلال العثمانيّ، أوائل القرن العشرين.

يضعنا الكاتب الفلسطينيّ منذ اللّحظات الأولى للرواية أمام صور للتعاطف الإنسانيّ مع امرأة وحيدة، تعيش لحظة ولادة متعسرة، تُدعى هذه المرأة "ليئا" وتستحضر صورة الزوج الغائب "إيلي" في مشهد مؤلم من الهذيان والحزن، تتذكر حالهم المنبوذ من أبناء طائفتها، أولئك الذين أبعدوا زوجها من حارتهم، حارة اليهود، بحجّة نشاطهِ مع حركة مقاومة التّتريك إِبّان الاحتلال العثمانيّ.

نلاحظ أن حالة الولادة لدى "ليئا" تشكّل تجسيداً لصور التّوتر الاجتماعيّ الذي عاشه المجتمع بسبب الطائفة اليهوديّة؛ إذ يستعد جزء من أبنائها لتلبية دعوات صهيونيّة بإقامة وطن قوميّ لهم في فلسطين، كما تظهر تفاصيل الأحداث المكتوبة. لكن جزءاً آخر من هذه الطائفة، ومنهم عائلة "إيلي"، دفعت ثمن رفض تلك الدعوات تشتّتاً وألماً ونبذاً من أبناء ديانته.

ونشهد كيف كانت "ميسون" زوجة المختار، المُسلمة، صديقة وفيّة لـ"ليئا". احتضنت "ميسون" طفلة صديقتها اليهوديّة المولودة حديثاً، بعد وفاة أمّها وغياب والدها المطلوب. ذلك الودّ المُتبادل، نلاحظه في مواقف كثيرة، عبر توصيف قصصيّ للمناسبات الاجتماعية المُقامة في الأحياء الفلسطينيّة القديمة، التي لا تخلو من الغوص الجميل في التفاصيل والحوارات والتعليقات المحليّة.

لقد رعت "ميسون" الطفلة لوقت قصير، قبل أن تنقلب الأحداث، ونرى كيف تسود الطقوس الاحتفاليّة الدينيّة المشتركة، من دون تفرقة. تقول "ميسون" في حوار مع ابنة عمّها حين توّلت تربية ابنة "ليئا"، بلهجة محكيّة، فلسطينيّة: "ليش طول عمرنا بندير بالنا ع أولاد اليهود وهم بيديروا بالهم ع أولادنا، عمري ما طلعت مشوار بعيد إلا أحط أولادي عند رفقة مرت الخواجة سلّوم، وهي لما تروح على الكنيس يوم السبت بتحطّ بنتها عنّا، بعدين شو ذنبها هالمسكينة لساتها قطعة لحمة صغيرة" (ص59).

ولعل المقصود من استخدام بعض الحوارات بالعاميّة المحليّة في الرواية، هو وضعنا في أجواء من لحم ودم للأحداث، وكسر نمطيّة التوصيف وتسلسل الوقائع بشكل أدبي وحسب، لنكون شركاء في تقمّص أصوات الشخصيات والتفاعل معها، وربّما تقليدها بتلك اللّهجة المُحبّبة وتخيّل ظروفها النفسيّة والعاطفيّة. 

تستعرض الرواية تداعيات أحداث تاريخيّة في سياق سرديّ لا يخلو من إبراز بعض أشكال العادات والتقاليد الفلسطينيّة، والتي أصبحت تراثاً يمثّل جزءاً أساسيّاً من هويّة البلد، من أمثالٍ شعبيّة وأغنيات لها جذور في الواقع المُعاش، مروراً بأنواع الطعام والحلويات، وأسماء الأشخاص والمناسبات، وصولاً إلى أنواع الثياب وأسمائها وتفاصيل الحارات والجغرافيا التي تبدّلت أحوالها. كلّ ذلك نقعُ عليه في تذييل أسفل الصفحات؛ كأنّه يشير إلى حقائق ليست على الأطراف إنّما هي من روح الحكاية ومتعتها.

يعتني الكاتب بتفاصيل القصص بدقّة ملحوظة، ويرسم الحدث من زاوية إنسانيّة تجعل القارئ يشعر بذلك التمكّن من العبور إلى سلوك وأرواح الشخصيات على اختلاف أنماطها وتركيبها والتعاطف معها. مثلاً، في فصل بعنوان "عين الأفندي ما بترحم" نمرّ على مشاهد استغلال الطبقات البرجوازيّة للمحتاجين، وتكريس مفهوم السيّد والجارية، لكن هنا ستكون الصبغة أقرب إلى مفردات المجتمع آنذاك. فالأفندي يستغلّ "لمياء" وهي فتاة فقيرة، وستكون شخصيّة محوريّة في الرواية، نشعر بألمها وظروفها إذ تبنّت ابنة "ليئا" بسبب وفاة "ميسون" زوجة المختار، نتيجة حادث عرضيّ. وهنا يصف الكاتب حالة المختار الذي يعمل بصمت مع المناضلين، ضد الأتراك، حين سمع نبأ وفاة ابنه وزوجته، فقال: "كيف يواجَه كل هذا الفقدان دفعة واحدة؟" (ص 67).

عملت "لمياء" مع أمّها لدى أحد الإقطاعيين، ثم تعرفت على شخصية أساسية في الرواية أيضاً وهي "بريجيت" الواصلة إلى فلسطين ضمن حملات التبشير الروسيّة، والتي تساعدها بدورها للتخلص من عبوديّة الأفندي وتنقذها مع الطفلة إلى برّ الأمان. نقرأ في هذ الفصل نصوص أغنيات باللّهجة المحكيّة تصف تلك الآلام التي عاشتها المرأة.

تتوالى فصول الحكاية لتدخلنا إلى عوالم النساء بطلات العمل، وقصصهن التي تنقلهن عبر ظروف قاسية إلى حيوات تدفع بهن خارج جغرافيا ذاكرتهن، ونشاهد ذبولهن بصورة تتطابق إلى حد ما مع غلاف الرواية. ثلاث وردات يُصارعن الحياة وظروف الاحتلال العثمانيّ إلى جانب رجال سيلقون حتفهم بعد حين؛ شهداء لذلك النضال.

والأرجح أن عقدة الرواية تتشكل في الفصل السادس، حيث نرى كيف اجتمع المختار و"إيلي" ورفاقهما الهاربين من الدرك العثمانيّ في إحدى الكنائس، ويعبّر موقف التخوّف لدى الأب المسؤول في تلك الكنيسة، من وجودهم، عن خطورة ما يقومون به ضد الاحتلال، فيقول "الحرباوي": "يبدو على ملامح الأب الامتعاض من وجود المختار وإيلي ومن معهم، فإن عرفت السلطات العثمانية بأمرهم فسيتسبب ذلك بأزمة سياسيّة كبيرة بين روسيا والعثمانيين، خاصة مع بداية بزوغ نجم الحركات الانفصاليّة عن الحكم التركيّ" (ص 63).

بعد ذلك، سيزداد الأمر سوءاً بخصوص وضع ابنة "ليئا" وهروب حاضنتها "لمياء" من الخدمة في بيت الأفندي إلى الغجر، ومحاولة هؤلاء استثمار حاجتها للكساء والغذاء من أجل الحفاظ على حياة الطفلة. فالغجر لا يستقرون "نزلوا إلى حمّامات الخليل من أجل الحصول على الدفء بسبب موجة الانجماد التي أصابت البلاد من جراء الثلوج الكثيفة" (ص 76). وتنجو الطفلة في ما بعد بمساعدة "بريجيب" التي تقدم العون لـ"لمياء" وتحميها من الغجر في صور إنسانيّة تعكس حالة التآخي والعطف التي لا تفرّق بين الأديان وتعطف على الأيتام بغض النظر عن الانتماءات والعرقيّات، كما نقرأ في الفصل المسمّى "اليتيمة" (ص 79).

تعرّفنا هذه الرواية من خلال النماذج الحيّة للأشخاص، على أمثلة مهمة تبلور طبيعة المناخ السياسيّ والاجتماعيّ القائم، والظروف الإنسانيّة بين الناس، الحالة الاقتصاديّة والتّماس اليوميّ بين أهل مدينة الخليل. هذه المدينة التي يمكن اعتبارها حاملاً فنياً للجغرافية والذاكرة، وتنتهي تقريباً الأحداث في تلك المدينة في آب 1915، فنشاهد كيف اجتمعت "بريجيب" و"لمياء" وابنة "ليئا" التي أصبح اسمها "ليلى"، عند محطة القطار لرؤية "إيلي" والد "ليلى" الذي لا يعرف شكل ابنته، و"المختار" ورفاقه وهم يساقون إلى الإعدام تحت حراسة العثمانيين بسبب ثورتهم ضد التّتريك.

ويبقى الفصل الأخير جامعاً لخيوط ختام الذاكرة، وقد وقعت أحداثه العام 1953، في جورجيا. ستموت "لمياء" التي كانت ذاكرتها تنهار، وستترك أوراقاً من الذاكرة عن فلسطين وقد أصبحت قضية، وكذلك "عن والدها الذي لم يعد من السفربرلك، عن أمّها التي سيقت كخادمة عند الأفندي وماتت من دون أن تُدفن حيث تريد، عن "إيلي" الذي ضحك قبل موته من دون أن يودّع ابنته الوحيدة ومن دون أن يعرف أن زوجته الوحيدة ماتت ودُفنت في مكان لا يعرفه أحد، الجوع والقتل والدم المسفوك في الساحات، الأطفال فوق أكوام القمامة، النّساء اللواتي بكين من دون توقف، شفتا عصمت أفندي وهما تسحبان من جلدها إحساسها بالحياة، خفقان قلبها الأبكم، بكاؤها الطويل في الطرقات والجبال" (ص 129). وكذلك "ليلى" التي باتت تحمل همّ البحث عن هويتها الضائعة في أوراق "لمياء" المتناثرة بين الأغاني الفلسطينية وحكاياتها الموجعة، وبين مضاعفات الفقد التي تعيشها كامرأة، لم يبقَ لديها ما يربطها مع أرضها إلاّ الكلمات وبعض الجروح العميقة.. جروح شكلت صوراً نقية لمدينة الخليل الفلسطينيّة آنذاك عبر شخصياتها الحقيقيّة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها