الخميس 2022/07/21

آخر تحديث: 14:17 (بيروت)

"حاجز لكفن"... واحة الراهب وسِيرة من الجحيم

الخميس 2022/07/21
"حاجز لكفن"... واحة الراهب وسِيرة من الجحيم
لقد أفرج عن وجودي الجسدي في عتمة قهره، لكن عتمة روحي ترسخت وتصلبت
increase حجم الخط decrease
تضعُنا الروائيّة السوريّة، واحة الرّاهب (1964)، في مشهد الصدمة القائمة -نوعاً ما- على مخزون الأخبار اليوميّة المُقبلة من سورية، مشهد يكشف طبيعة الخوف الأول، لبطلة رواية "حاجز لكفن" (دار نوفل 2020)، حيث تراقبها عيون عناصر مدججين بالسلاح، في لحظة تفتيش حقيبة مليئة بالمواد الإغاثية الطبيّة والثياب النسائيّة، ولم يكن سواها امرأة في الحافلة، حيث سوف تقع في أيديهم ثم يبدأ سير الأحداث من لحظة الاعتقال إلى ختام الانعتاق المؤجل من اعتقال آخر كانت قد هربت منه، وهو سجن مجتمع غارق في الانحطاط ومزدحم بالرعب.

"صِبا" هذا هو اسم المرأة التي سنذهب معها في مشاهد بين الواقع الكارثيّ المُعاش، والشعور الذاتي الذي تقع عليه نتائج هذ الواقع، تحمل صوراً مؤلمة من سجون النظام السوري بالتوازي الباطن للشخصية مع آثار سطوة المجتمع ونظرته للمرأة وما تركته العادات والتقاليد على أفكارها وأقدارها لاحقاً.

ما بين سوريا، الطّافحة بالحرب والميليشيات، والمرأة-الثّورة، تصوّر واحة الراهب، التداعيات المؤلمة، للمرأة، الأمّ، الزوجة، الصّديقة، الشريكة، الحبيبة، العاشقة، الثّائرة، الحرّة، المُغتصبة، الغاضبة، الحزينة، الحالمة، الكئيبة، الصارخة. وعشرات المشاهد السرديّة القاسية التي بإمكانها أن تكون أصواتاً مُتعدّدة لنساء سوريّات عِشن، ولازلن، منذ ما يزيد عن نصف قرن، في مواجهة مجتمع تحكمه الذكوريّة والعنف والاستبداد والاتجار بالدين، كما تحتضنه وتقويّه آلة الطغاة والعسكر والقتل.

المحجبة
منذ اللحظة حينما تخضع "صبا" لعملية الاستجواب الأمني الوحشيّة، نخوض معها في العمق النفسي لأفكارها وما تربّت عليه وحملته معها على مستوى فهم الآخر، والحشمة الدينية، والتقرّب من الله في لحظات لا يؤثر فيها إلا الإنسان، ولا تحكمها إلا أدوات الإجرام المتنوعة لدى مخابرات النظام السوري.

منذ البداية تأخذ الكاتبة صوت البطلة، وتروي بضمير المتكلم تحليلها للأفعال التي أمامها، وتعليلها الذاتي لما يجب الردّ عليه، كأنّها حصيلة زخم من "نكباتها اللامتناهية".

فالمرأة المحجبة، حسبما تكشف الكاتبة منذ الصفحات الأولى، تحيلنا لتخيل ما يعنيه أن تُعتقل امرأة مسلمة من قبل أجهزة مخابرات لغتها الوحيدة إهانة الإنسان بوحشية فاشية، فتنزع عن المرأة ثيابها وتمارس كلّ أشكال الانتهاك والاغتصاب وهي تعتقد -أي الأجهزة- في قرارة عقيدتها أنها تعذّب هؤلاء "المؤمنين" أكثر من غيرهم في الصراع الدموي السوري، لسبب تاريخي مزعوم يربط أي معارضة سياسية بالمظاهر الدينية وعقائدها (...).

تفاصيل أقسام الرواية الستة، استقتها الكاتبة من الشعور الذاتي بصور الجحيم، حيث لا أمل في أي شكل من أشكال الحياة، ولن تستطيع بطلتها أن تحقق "لذة تحدي كلّ هذا العالم المؤذي العنيف"، إذ في "أتون الجحيم" يصدمنا الوصف القادم من "مرتع الحيوانات البشرية التي تقتات بلحوم إخوانهم من البشر وأرواحهم". ونقرأ هنا عن أثر لهاث صاخب بات يعكس تعابير الألم في الكلمات، بينما صِبا تُخبرنا كيف تحوّل جسدها في فرع المخابرات إلى "أنقاض جسد هامد كجثة"، كانوا يمارسون القتل المستمر لكلّ ما هو إنساني في هذه المرأة، ولم تكن تغيب التوصيفات الصارخة التي تجسد لحظاتها في رحلة "العذاب الجهنمي" تلك.

يشكل أسلوب المونولوغ، عصباً مهماً في الغوص في تفاصيل الرواية، إضافة إلى استخدام اللهجة العاميّة في مطارح عديدة كالحوارات بين ضابط الأمن، بلهجته الساحلية، والأحداث التي مرّت في ذاكرة صِبا، إضافة إلى شيء من اللغة التي شكلت شخصية هذه المرأة المتخبّطة في جدوى الإيمان الغيبي الذي عاناه معظم السوريين باعتمادهم على السماء في معظم قضايا الأرض، وهذا الشعور يبدو متوتراً بقوة في شخصية هذه المرأة، فهي تقريباً من تسرد وتتذكر وتصوّر وتحاكم وتحلّل وتقارب وتنفي وتبنى وتقرر وتسقط وتصرخ وتحتج وترفض من دون جدوى أيضاً.

العبرة
تقول صِبا في الصفحة 38: "ما العبرة في امتحان الربّ لي بتجربة قاتلة في مرارتها كهذه، في جحيم الأثمان الباهظة المسفوحة فيها مجاناً؟" فقد استبيح جسد الأنثى، رغم أنّها لا تعرف حتى إذا ما كنت مثيرة أو جميلة بسبب تجربة الزواج المريرة برجل يكبرها بأكثر من عقدين، لا يرى فيها إلا عبدة له، ولم تتفتح حتى أنوثتها على يديه، ربما لخوفه من أن تُكشف مواطن جمالها وتتفرعن عليه وتطرده من حياتها كما فعلت طليقته، حسبما تقول في ص 41، إذاً نحن أمام امرأة كانت تسعى للتخلص من جحيم الزوج وأهله وكبتها وشعورها الدائم بالعدم، لكنّها وقعت في أيدي أناس من الوجه الآخر لهذه الحياة اليوميّة في سورية، أناس يسمّون أنفسهم "أمن الدولة" فكيف تواجههم؟ بحوارات داخلية، بتداعيات إلهية، تطلب ممن يد العون وهي مسحوقة مع عشرات السجينات في زنازين النظام تحت الأرض!

تزداد قسوة الكشف في رواية "حاجز لكفن" فكلّما تقدمنا بالصفحات، تدلّنا الاعترافات الذاتيّة على الجذور العميقة للوجع، وفي صورة المهجع النسائي للمعتقلات، نعلم أن صِبا مصابة برهاب العتمة والخنّاق التنفسي، لكنّها مع ذلك كانت تسمع مآسي الأخريات وتخفف عنها تضخم إحساسها بالمصائب، تشاركهم ذلك، وفي "الطريق المعبّد للجحيم" تذكرنا صِبا كما "كان الحياء والخوف من العار سمتان لازمتا مسيرة حياتها، أورثتهما إيّاها العادات العائلية والتقاليد والبطولات الخيالية الجالسة فوق رؤوس الرجال من قصص عنترة والزير والتي صعدت بقوة في أيام طفولتها، مشيرة إلى خذلان الأنظمة العربية أيام بداية الاحتلالات الأجنبية آنذاك، والمفارقة هنا تأتي بوجهها العلني على لسان البطلة، إذ تقول "بات استقواء الرجال علينا واستحكامهم بمصيرنا هما وحدهما المعيار لإثبات مدى شجاعتهم وفحولة رجولتهم" (ص 54).

القبيسيات
وفي مواضع أخرى تعيرنا صبا من ذاكرتها الاجتماعية، تفكيكاً مهماً لظاهرة ما زالت دارجة في سوريا، وهو القبضة الدينية لنساء "القبيسيات" التابعات للنظام، شريكات أئمة الجوامع الذين يبررون قتل المتظاهرين لأنهم "لا يرضون بالمكتوب ويتمردون على أولي الأمر منّا والسلطات التي تحكمنا" (ص63)، وهنا بينما تتذكر بطلة الرواية هذا الخليط من التربية الدينيّة السياسية التي يديرها النظام في سورية، تخبرنا أيضاً كيف قُتل أخوها فادي أثناء المظاهرات، وهذا ما توّج صدمتها من ظروف الجحيم الذي تعيشه.

تتجه صِبا إلى الدين بشكل مباشر وتكون تحت كنف "الآنسات الجبارات القديسات اللواتي يكشف عنهن الغيب" حسب وصفها، إلا أن ذلك لم يجدِ نفعاً، فالآنسة الكبيرة كانت مجرد تجسيد لفكر الطاغية عبر الدين وشرعنة استعباد الناس من قبل القائد، والحصول المستمر على صكوك المغفرة ليس بأقل من ارتداء "النقاب" إذ كانت تشعر صِبا أنها ترى العالم من منظاره الأسود الحالك "الذي يعمي بصري وبصيرتي بكتم أنفاسي ويشعرني بأني لست بأكثر من كيس قمامة مقفل على قاذوراته" (ص 68).

تركّز واحة الراهب بشكل كبير على البحث في جذور الموروث الاجتماعي للمرأة في سورية، من وجهة نظرها قد تمثل حالة انفجار نوبات الحصر التنفسي لبطلة الرواية، شكلاً من أقسى أشكال رُهاب العبودية الاجتماعية كما تكرسها البيئة الحاضنة من الأسر، وصولاً لكلّ مؤسسات البلاد في التعليم والتربية والعمل والنظام السياسي والاجتماعي، ويشترك في ذلك حسب ما لمسنا من هذا العمل تبرير الوقوف النسائي إلى جانب المُعتدي، بشخصه المعنوي أو المادي، إذ تقول صبا في إشارتها إلى صمت والدة زوجها وأختهُ وموقفهما من محاباة القبضة الذكوريّة القاتلة: "إن خوفهما هو الخوف ذاته الموجود عند الكثيرات منّا، خوف من مواجهة ما يترتب على أي دعم لحقوقي أو حقوقهنّ إن تعرضت للسلب. خوف يضخم إحساسهن بفقدان استقرارهنّ ووجودهنّ ذاته" (ص 79).

في لحظة ما، تفجّر صبا تلك العبارة أمامنا ونحن في الصفحة 92 واصفة زوجها بلهجتها العاميّة: "أنت كريه... نكرة.. أنت مصغّر وحش عن سجاني يلّي برا"، ولاحقاً سوف تخبرنا عن جملة الأسباب والآثار التي تبعتها لتترك بيت زوجها حاملة معها كفنها إلى بيت أهلها في درعا، وفي الطريق ابتدأ كل شيء، أوقفها الحاجز الأمني الذي اشتبه في امتلاكها لحقيبة الإغاثة تلك، والتي كانت تعود لامرأة أخرى، هربت من وسيلة النقل إياها حيث كانت صِبا هي المرأة الثانية الباقية والتي اتهمت بالحقيبة لتدفع ثمناً باهظاً بالخطأ، وهل يا ترى سوف يعثرون على صاحبة الحقيبة؟ هكذا تترك الإجابات برسم الوعي ومعرفة الوقائع الحقيقية، فهذه سيرة من الجحيم لامرأة من المأساة السورية، نجت أم لا، هي تدوّن موتها بالكلمات، وتتحمل مسؤولية نهايتها تلك الأجهزة المتوحشة أمنياً.

بقي أن نشير إلى أن آلية بناء أحداث الرواية، تأخذ طابع الخطف خلفاً، وهي تدفع القارئ للبحث أكثر في تيارات التمرد والرفض الصاعدة من أعماق هذه المرأة، كأن بها تلّخص آلام آلاف السوريّات، برمزية الضحية في كل مكان: "لقد أفرج عن وجودي الجسدي في عتمة قهره، لكن عتمة روحي ترسخت وتصلبت وما كان بالإمكان أن تشهد إفراجاً قريباً" (ص 99)، هي إذاً صورة امرأة ميتة تقريباً وتدعي الحياة أنها ما زالت على قيدها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها