الثلاثاء 2023/01/10

آخر تحديث: 18:47 (بيروت)

ستراسيرا في لبنان

الثلاثاء 2023/01/10
ستراسيرا في لبنان
خوليو سيزار ستراسيرا في حركة للجنرالات الأرجنتينيين داخل المحكمة: رائحتكم عفنة
increase حجم الخط decrease
لا كثير مغامرة في القول إن "الأرجنتين 1985" يتخطى الحلاوة السينمائية، والبيان الإبداعي لحقبة تاريخية مفصلية تكاد تكون فريدة في العالم الثالث. فيلم عابر لقضيته. حقنة منشطة، بالمعنى المفاهيمي والثقافي والعملي لكلمات من قبيل: العدالة، النظام السياسي، والديموقراطية. ربما هذا أحد أسباب نجاحه الباهر عالمياً، جماهيرياً ونقدياً على حد سواء. وللبناني الذي يشاهده أن يفكر: ماذا لو كان لدينا خوليو ستراسيرا خاصاً بنا؟ بل لماذا لم (لن؟) نحظى بستراسيرا لبناني؟ تساؤلات خاصة جداً إلى الحد الشخصي بالنسبة إلى كثر منا، وعامة جداً إلى الحد الذي يؤهلها لمقدمة كتاب عن تاريخ لبنان الحديث.

يسرد الفيلم الرحلة الملحمية للمدعي العام خوليو ستراسيرا، ومساعده لويس مورينو أوكامبو، مع فريق من المحامين والحقوقيين والباحثين الشباب، للملمة تفاصيل جرائم المنظومة العسكرية التي حكمت الأرجنتين بين العامين 1976 و1983، وتقديمها للقضاء بهدف محاكمة المسؤولين عن قتل وتعذيب وإخفاء آلاف الأرجنتينيين، وذلك بعدما استتبت حكومة مدنية وقررت تنفيذ وعدها الأساس في هذا الملف الدامي. وفي سرده هذا، يوقظ الفيلم تلك الأسئلة المشرقية واللبنانية العصية، عما إذا كانت العدالة نتيجة لسياسة ديموقراطية، أم محفزاً لتحققها. والمعضلة البائسة ليست في أحجية "البيضة والدجاجة"، بل في أمرَين أشد إثارة للحزن.

الأول هو الإصرار، المفهوم والمثير للإعجاب ومُحتِّم المؤازرة، للمكلومين بجريمتين تتصفان بالوطنيتين الشاملتين ضد شعب بأكمله، أي أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت، والتشكيلات المدنية والحقوقية الممثلة للمودعين اللبنانيين. مثابرة على النضال من أجل نيل العدالة، من دون أن تُلمح في الواقع اللبناني مؤشرات على إمكانية تحقق ذلك في المدى المنظور... وكأنهم يتقمّصون، رغماً عنهم، قضية المفقودين والمخطوفين في الحرب اللبنانية، وكذلك مصائر اللبنانيين في السجون السورية. كأنهم يتقمصون جرحاً مفتوحاً بالمجان.. طالما أن السلطة، وهي نفسها منذ أمراء الحرب الأهلية، لن تدين نفسها.

والأمر الثاني، أن مؤسسات العالم الحر، حتى حين تخرق تجاهله لنا وانشغالها بقضاياه، لا يمكنها أن تفعل الكثير في ظل "ديموقراطية" تعيد إنتاج الحرب والطوائف، اللهم إلا في دفاتر تسجيل النقاط الأخلاقية والسياسية، كما حدث في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في اشتغالها على قضية اغتيال رفيق الحريري.

تستعد بيروت، هذه الأيام، لاستقبال وفد قضائي أوروبي، طلب المساعدة من القضاء اللبناني في تحقيقات بملفات لدى ألمانيا وفرنسا ولوكسموبرغ تتعلق بتبييض أموال وتهرب ضريبي، وسيستمع إلى إفادات مصرفيين ونواب لحاكم مصرف لبنان ورجال أعمال. الوفد يتابع قضايا أوروبية، وفي أحسن السيناريوهات ربما يستفيد متضررون لبنانيون لماماً من فتات تقاطع قضاياهم مع هواجس حكومات الوفد.

وفي ملف انفجار مرفأ بيروت، "ما زال وزير المال، يوسف الخليل، يمتنع عن توقيع مرسوم التشكيلات القضائية الفرعية، ما يعرقل اكتمال نصاب الهيئة العامة لمحكمة التمييز بقضاة أصيلين بدلاً من القضاة أعضاء الهيئة المتقاعدين"، على ما يذكر بيان لأهالي الضحايا الذين نفّذوا اعتصاماً احتجاجياً اليوم. يضيف البيان أن "القضاة المنتدبين بدلاً عن المتقاعدين في الهيئة العامة لمحكمة التمييز، لم يجتمعوا بعد للبت بدعاوى مخاصمة الدولة المقدمة من وزير الأشغال السابق النائب غازي زعيتر، ووزير المال السابق النائب علي حسن خليل، ضد القاضي الناظر في دعوى رد القاضي بيطار ليتمكن بيطار من استكمال التحقيق ويمتنعون بالتالي من إحقاق الحق"... فيما "بعض الوزراء والنواب المتهمين بقضية التفجير، يستمر بالتعسف باستخدام حق الدفاع عبر تقديم طلبات رد القاضي بيطار، ما يوجب بالتالي تعديل قانون أصول المحاكمات المدنية للحد من التعسف باستخدام الحق وعدم كف يد المحقق العدلي في دعاوى الرد ومخاصمة الدولة إلا إذا ارتأت المحكمة ذلك". أي أن القانون موجود، لكن السلطة "تُجيد" استخدامه، تركن لثغراته التي لا منطق يقول بأنها ستعدلها ضد مصالحها.

أما في قضية المودعين، فبعض القوانين موجود، والبعض الآخر لا أمل في انوجاده إلا بما يزيد خسائر المدعين فداحة. لكن ثمة هِمّة سياسية واضحة، وربما تكون شاملة للأطياف السياسية المختلفة، من أجل تعديل قانون النقد التسليف بغية التمديد لرياض سلامة، أحد المسؤولين عن الأزمة الراهنة... على غرار ما مُدّد سابقاً لرئيسي الجمهورية الياس الهراوي وإميل لحود، بل ومثلما مدّد المجلس النيابي لنفسه وهو المفترض أنه المَشغَل الوطني الأول للقانون والدستور وتداول السلطة.

لا مفر، وليته كان هناك مفرّ، من هذه الغرفة الإسمنتية المسلّحة. لبنان الذي بلا أبواب ولا نوافذ. المقفل علينا وعلى هذا النظام وهذه السلطة إلى أجَل غير مسمّى. لكن السياسة أولاً. لا بد. ثم تأتي العدالة، بالمُطالبة والنضال الأهلي والمدني والعمل القانوني النظيف والشجاع. المطالبة عمل سياسي، لكن العدالة في ذاتها أقرب إلى "بيروقراطية" السياسة.. السياسة حين تعمل بحق.

يحصل أن تُنجَز انتصارات فردية للعدالة، تعتمد إلى حد كبير على شخص القاضي وطبيعة القضية، إضافة إلى شرط ألا يرتبط المتقاضون بشكل مباشر بأحد رموز الطبقة السياسية أو الدينية. لكنها ما زالت استثناءات، لا يحققها اللبنانيون إلا حين تغيب السياسة، وهذا بالضبط ما يبقيها استثناءات.

ستراسيرا لم يكن مسيساً، على ما يظهر في الفيلم. ربما أوكامبو، وحفنة من مساعديه. لكن ليس ستراسيرا الذي بدا أقرب إلى تكنوقراط على حافة الجُبن في ما يتصل بعلاقة منصبه بالشأن العام. لكنه موظف كفوء ونزيه. عيّنته السلطة المنبثقة عن الديموقراطية الوليدة، وكان هذا كل ما يلزم، إلى جانب شجاعة استجمعها على طول الطريق، لمجابهة ضغوط لمحاباة سلاح الطيران دوناً عن بقية العسكر، وتهديدات جدية بالقتل... وصولاً إلى تلك الحركات الاستهزائية المهينة والطريفة التي أداها في وجوه الجنرالات المتّهمين داخل قاعة المحكمة. وبعدما جَرَد زملاءه القدامى من محامين وقضاة، فوجد معظمهم طاعناً في السن أو متوفياً أو ذا ماضٍ فاشيّ يستبعده طبيعياً من إعانته في استكمال ملفه الثقيل، ولّف ستراسيرا على عجل فريقاً من الشباب، غالبيته بعيدة من السياسة عموماً. لكنهم شباب، وكانوا حاضر الأرجنتين، وهي مستقبلهم. هم كانوا يبحثون عن تحققهم كحقوقيين جدد، وهي كانت تبحث عن كفاءاتهم المحضة. أما السياسة، فكانت مُحققة، وكانت رافعتهم، وبهذا المعنى فقط استطاعوا تحقيق الإنجاز العدالتي السياسي الأهم في تاريخهم، وباستمرارية سنوات تالية على المرافعة الشهيرة لستراسيرا حين أمِل وتوعَّد في عبارة واحدة: Never Again.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها