الجمعة 2022/07/29

آخر تحديث: 20:19 (بيروت)

الحنين الأصل إلى بيروت النُّسَخ

الجمعة 2022/07/29
الحنين الأصل إلى بيروت النُّسَخ
فاتن حمامة في دور موظفة في "مكتبة أنطوان" (فيلم "حبيبتي" - إخراج هنري بركات)
increase حجم الخط decrease
كان خبر إقفال فرع مكتبة "أنطوان" في "أسواق بيروت" شرارة كلام كثير، وتناقضات أكثر، لا تغترب عن البلد وعاصمته بطبقاتها المدينية - حرفياً بآثارها الفينيقية وصولاً إلى العثمانية، ورمزياً بتحولاتها وتقلّبات أدوارها خلال عقود طويلة. فرع "أنطوان" المُقفل، ربما لا يكون ذا قيمة معنوية، ثقافية، أو تاريخية تُذكَر. فهو جديد، أحدث حتى من "الأسواق" المستحدثة. وثمة من يرى أنه، رغم اللمسة الكُتُبيّة الخفيفة التي أضفاها على وسط استهلاكي بحت، ظلّ أشبه بالمحلات المجاورة، كوجبة ثقافية خفيفة، خلافاً لفروع "أنطوان" الأخرى بمسيرة أعوامها التسعين وأكثر من عشرة فروع، والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتاريخ بيروت، لا سيما في شارع الحمراء ومحلّة باب إدريس.


غير أن خبر إقفال "أنطوان الأسواق" بدا ذا دلالة في ردود أفعال الناس عليه، وأهم ما فيها أن نقاطها المرجعية متناثرة في الزمن، بل متصارعة أحياناً، ولواحدةٍ على الأخرى ثأر. هكذا تظهّرت بيروت "الأصل"، في المخيلة الجمعية، بيروتات. والأزمة الراهنة، ومَوات العاصمة عموماً، جعل المقارنات متخبطة في حنينها...

فهل نفتقد بيروت ما قبل الحرب؟ حينما كان وسطها قلبها النابض، مُنطَلَق وسائل النقل العام ومنتهاها، ذوّاب المسافات بين طوائفها وطبقاتها الاجتماعية؟ حينما كان تجارياً بالمعنى الوظيفي الوطني والعام للكلمة، قبل أن يصبح خصوصية "سوليدير" و"داون تاون"؟ حينما كان عامراً بسينما ريفولي و"التياترو الكبير"؟... الحنين إلى بيروت هذه، جعل خبر "أنطوان الأسواق" غير مُستحِقّ لسَيل عاطفي، بل ربما استجرّ شيئاً من الشماتة في ما آل إليه مشروع "سوليدير" الذي يعتبر كثُر أنه استولى على عصب بيروت وانتزعه انتزاعاً من مُلّاكه الأصليين بأبخس الأثمان وبأداء لم يكن أميناً كفاية على موروث عمارتها وذاكرتها.

أم أننا نفتقد بيروت الخارجة من الحرب، العائدة بأمل إلى الحياة من تحت الأنقاض، المستقرة ولو بشيء من الوَهم. لكن الوَهم حين عشناه بجوارحنا واستثمرنا فيه حيواتنا، أصبح صنواً للحقيقة الدامغة. نصلّي، إذن، على أذيال بيروت البحبوحة ورفع المتاريس وانفتاح "الشرقية" على "الغربية"؟ بيروت الوجهة السياحية، الناهضة بالبزنس كما بحركة الصحافة والفن والنشر؟ الاشتياق هذا إلى بيروت، جعل خبر "أنطوان الأسواق" حزيناً. حلقة في سلسة الانهيار، وأحد الأنفاس المدينية الملفوظة.

الحب لا يؤطَّر، خصوصاً حب المدن. القلوب في ما تعشق وتتذكّر وتحنّ إليه.. مَذاهبُ، وهذا جزء من جاذبية المركز الحضري. وكذلك، مَذاهب، السؤال عمّا إذا كان الدور الثقافي لوسط بيروت قد انقطع أو شُوِّه بعد الحرب، بشكل استكمالي للحرب نفسها. وهذا أيضاً مما لا ضرورة لتوحيد سرديته، بل ربما يكون "تأميم" من النوع هذا ضرباً من القمع التاريخي والفكري، فأي قيمة تبقى لمدينة مثل بيروت إن أسَرناها في حكاية وحيدة؟ غير أن توسيع بيكار "الثقافة" ربما يرسم خطوط وَصل بين الحكايات تجعل التفكير في السؤال أعلاه أجدى وأكثر إمتاعاً.

ثقافة الترفيه مثلاً، في وسط بيروت بعد توقف الحرب، عشية الألفية الثالثة وغَداتها. مقاهٍ ومطاعم وفرجة الناس بعضهم على بعض، الموضة المتنزِّهة، وعناقات العشاق... ثم احتفالات المارّة الغرباء برأس السنة، معاً، مجاناً، تحت سماء الألعاب النارية، وحفلات فنية على مسارح مفتوحة، مهما كانت متواضعة فنياً.

وثقافة السلطة، التي لم تبدُ قهرية، أوّل عودة مجلس النواب إلى مقره في ساحة النجمة، أو إعادة الحكومة إلى مقرها في السراي. السلطة المرتاحة في البداية لمحيطها من المقاهي والمتاجر وبائعي الكعك والبالونات والعائلات المتجولة مع أطفال على درّاجاتهم الصغيرة. سلطة تحظى بغطاء دولي وإقليمي، لا يقلقها شيء. ثم السلطة العليا فوق السلطة الرسمية التي أقفلت وسط بيروت مدة عامَين في ما سمّي "اعتصاماً". والسلطة التي صوّنت نفسها أخيراً بـ"جدار العار"، أسوة بالمصارف مُحتجزَة/مُبدِّدة أموال اللبنانيين. ثقافة السلطة وشبيحتها الخارجين من زواريب وسط بيروت، جنباً إلى جنب ثقافة الاحتجاج، في شباط وآذار 2005، وصولاً إلى 17 تشرين 2019. ثقافة السلطة المتلوّنة المتذبذبة مثلها.

ثقافة مكاتب الصحف ووكالات الأنباء والتلفزيونات العربية والأجنبية، وناسها وضيوفها. محاولة لوراثة شارع الحمراء، ربما. معارض فوتوغرافية وتشكيلية، ولو كانت غالبيتها درجة عاشرة، وغاليريهات فخمة نشأت على أطراف المربّع الحيوي. وثقافة الآثار التي كشفتها حفريات إعادة الإعمار، جدلية بين الشاهد السياحي، وغضب مثقفين وعلماء جراء ما طُمر منها أو سُرق أو تلف.

وبنقرة على زر الرجوع السريع: عودة إلى ما قبل الحرب. ثمة تَوازٍ مدهش بين قصّتَي "التياترو الكبير" ووسط بيروت، حتى ليبدو واحدهما ظِلّاً للآخر. "التياترو" الذي صُمّم على غرار دور الأوبرا الأوروبية، وافتُتح العام 1929 بمسرحية غنائية أميركية حققت نجاحاً مدوياً في برودواي، استضاف في ما استضاف حفلات محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفرقتَي "الكوميدي فرانسيز" وباليه الشانزيليزيه. مَثَّل على خشبته يوسف بك وهبي، وارتاده كبار الشعراء والمشاهير والسياسيين، كما عُرضت فيه درر السينما المصرية وبواكيرها. "الوردة البيضاء" أول أفلام عبد الوهاب الغنائية، و"أنشودة الفؤاد" أول فيلم غنائي مصري لجورج أبيض ونادرة أمين. ثم توقف "التياترو" العام 1982. وفي التسعينات، قامت حملة لترميمه (من أبرز وجوه الحملة آنذاك، إلى جانب الوزير والمثقف غسان سلامة، صاحبة "مسرح المدينة" نضال الأشقر التي للمفارقة يستضيف مسرحها الآن مجالس العزاء العاشورائية). لكن شركة "سوليدير" سيّجته لترمّم واجهته فقط، فيما زاد الإهمالُ الخرابَ الداخلي خراباً. في العام 2011 قيل أن الشركة ستحوّله إلى "بوتيك أوتيل"، وهذه الفكرة أيضاً نُثرت هباء.

وبقي "التياترو" حبيس سياجه حتى اقتحمه المتظاهرون في انتفاضة 2019 ورفعوا العلم اللبناني على سطحه في سعي لاستعادة الشعب "مُلكيّته" ومعالِم المدينة من الشركات والأفراد والسلطة. ليعود، بعد هذا الفاصل السينمائي، إلى سجنه، موقوفاً في الزمن والوظيفة... ومثله بيروت، ووسطها حيث أُغلق في منطقة "الأسواق" فرع "مكتبة أنطوان" الذي عاش، ربما، وبإيجار باهظ، على ذاكرة فرع قديم في مجمّع "ستاركو" القريب، حيث أدّت فاتن حمامة دور موظفة في المكتبة في فيلم "حبيبتي" مع محمود ياسين. كان ذلك العام 1974، أواخر الحقبة المرجعية للجمهورية الأولى، وقُبيل الحرب الأهلية التي زادت إلى بيروت، بَيروتَين أو أكثر. ومن بعدها، في السِّلم، ثم في الانهيار، ما عادت هناك إلا نُسَخ من المدينة، وكلٌّ يختار ما يريده "الأصل".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها