الجمعة 2022/07/15

آخر تحديث: 20:33 (بيروت)

"جايمس ويب" يردّ تحية الخيال بفائق حقيقي منه

الجمعة 2022/07/15
"جايمس ويب" يردّ تحية الخيال بفائق حقيقي منه
increase حجم الخط decrease
لعل كلمات من قبيل مذهلة وآسِرة ومدهشة.. تقف قصيرة القامة، محدودبة، أمام الصور الأيقونية التي رفدنا بها تليسكوب "جايمس ويب"، بعد 26 عاماً على انطلاقته كمشروع بلغت كلفته 10 مليارات دولار. تلك النظرة التي منحنا إياها إلى أعمق نقطة رأتها البشرية في الفضاء حتى الآن، وقطرة الإدراك الذي ما زال -رغم كل الخرق- قاصراً، لجزء ضئيل وعملاق من "طفولة الكون"، والمتوقع أن تتطور إلى بحور معارف إضافية عن "الانفجار الكبير" وسلفه وخلَفه،... تلك النظرة الأشبه بتفّاحة للعيون والعقول والخيال.


لكن الحقيقة المكتوبة بالخطّ متناهي الصّغر تحت الصور نفسها، هي أن هذه المَشاهد "الجديدة" فجّرت ألعاباً نارية في الذهن والوجدان، ليس لأننا لم نر مثلها من قبل. بل فعلنا. ورأينا، ربما، ما هو أكثر تعقيداً بصرياً، في تخيلات الأدب والسينما الحديثة. لكن العامل العجائبي في صور "ويب" ربما يتمثل في أننا نتلقاها كمستندات ووثائق أصلية، حقائق بصرية، الآن وهنا، تفيد في الحقيقة بـ"هناك في محيطنا الموغل في البُعد" و"آنذاك قبل 13 مليار سنة". إنه الزمان والمكان، المكسوران المُلتحمان، كواقعة واحدة نحتكّ بها في اللا-مكسور الذي نظنّنا نحيا فيه. من هنا تأتي النكهة الملحمية للصور، التي كان الأدب ثم السينما قد سبقا العلوم التطبيقية، بقرون، إلى رسمها وسردها لمتعتنا الخالصة. أكثر من ذلك، ثمة من يرى إن ثقافة الخيال العلمي هي التي مهدت الطريق للإنجازات العلمية الفعلية، سواء بإعداد الرأي العام (الغربي) لانتظارها، أو بتعبيد الطريق اللوجستي لها على مستوى القرار السياسي لتبنّيها ومن ثم تمويلها والشروع في تنفيذها.

كان القمر وجهةً للخيال البشري قبل أن نتمكن من السفر إليه بوقت طويل. منذ "رواية الخيال العلمي الأولى" في القرن الثاني الميلادي، لليوناني-الهيليني، لوسيان ساموساتا، كاتب "قصة حقيقية" - الحكاية التي تُعتبر أول نص معروف يتخيل السفر إلى الفضاء الخارجي... وصولاً إلى سينما أوائل القرن العشرين. ولعل هبوط "أبولو11" على سطح القمر العام 1969 كان ممكناً، في جزء منه، بفضل اهتمام الجمهور المتزايد بالسفر عبر الفضاء، لتصبح الفانتازيا حقيقة عِلمية. والحال أنه، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بدأت حكايات الخيال العلمي هذه في إثارة خيال العلماء. فالأميركي روبرت إتش جودارد، أحد "آباء" صناعة الصواريخ والذي بنى أول صاروخ يعمل بالوقود السائل، افتُتن برحلات الفضاء بعد قراءة سلسلة "حَرب العوالم" (1897) The War of the Worlds للكاتب الإنكليزي هيربرت جورج ويلز الذي أثّر أيضاً في بواكير الأفلام عن الفضاء.



قلة لا تعرف صورة "وجه القمر" المُنغرس في "عَينه" صاروخ أطلقه مدفع عملاق من الأرض، حاملاً علماء فلكيين. هذه الصورة أيقونية سينمائية، من أول فيلم متمحور حول السفر إلى القمر للمخرج الفرنسي جورج ميلييه "رحلة إلى القمر"(1902)، والمستوحى من روايات جول فيرن "من الأرض إلى القمر"(1865)، و"حول القمر" (1870). والجدير بالإشارة هنا أن متاحف باريس، الدائرة تيماتها حول الاختراعات والاكتشافات العلمية، تقدم بموازاة معروضات التقنيات الأولى، رسوماً ومجسّمات تجسّد ما "حلم" به جول فيرن من إبداعات تتحدى الجاذبية وأعماق البحار، لينسج حولها حكاياته المثيرة.. وذلك جنباً إلى جنب مع مخطوطات ليوناردو دافنشي. علماً أن فيلم ميلييه نفسه، يظهر شروقاً للأرض من منظور قَمَري، وهو يحاكي ما التقطه لاحقاً رائد الفضاء بيل أندرس خلال مهمة "أبولو8" (أول مهمة مأهولة تدور حول القمر)، لتصبح صور أندرس رمزاً لجمالية الكوكب الأزرق وهشاشته في الفضاء الفسيح، ومصدر إلهام للحركة البيئية أواخر القرن العشرين.



حتى إجراء العدّ التنازلي الشهير، تبنّته "ناسا" بعد سنوات من الفيلم الألماني الصامت "امرأة في القمر"(1929-إخراج فريتز لانغ)، وهو الذي أضافته كاتبة السيناريو ثيا فون هاربو على النص.. فقط من أجل مزيد من الدراما! وأحد مستشاري الفيلم، كان هيرمان جوليوس أوبيرث، وهو "أبٌ" آخر لصناعة الصواريخ، وكان قد خطط لبناء صاروخ لاستخدامه في الترويج للفيلم، لكنه لم يكمله في الوقت المناسب. أما المستشار الثاني للفيلم، فكان كاتب الخيال العلمي الشهير، ويلي لي. واستمرت مثل هذه العلاقات بين العلماء وصانعي الأفلام مع تقدم القرن العشرين.

وها هو توم كروز يعد جمهوره بتصوير فيلم في الفضاء، بالتعاون مع شركة إيلون ماسك "سبايس إكس"، بحلول العام 2024. لكنه، في الحقيقة، لن يكون الأول من نوعه، بل سبقته سبعة أفلام أميركية وسوفياتية وروسية وكندية، منذ العام 1984، حتى العام الحالي.

وقبل زمن طويل من مجيء الفضاء إلى سكّان الأرض، بصُوره السحيقة في القِدَم، الطازجة في الاكتشاف، فإن الأرض خرجت إلى الفضاء، بقضاياها واستعاراتها المرمّزة للقلق الوجودي الإنساني، والهجس بجدوى البشرية ومعنى كينونتها ومآلاتها المصيرية. من الكائنات الفضائية كاستعارات لقضايا المهاجرين وإشكاليات الآخر والذات في فيلم Alien (وهي المفردة نفسها التي تُستخدم في الولايات المتحدة للدلالة إلى المهاجرين غير الشرعيين)، إلى Contact.

ولم تغب المُركَّبات النفسية العويصة لأشهر رواد الفضاء، عن الأفلام التي عرضت قصصهم الحقيقية، فتفاعلت تلك المركّبات في سياقات السفر إلى الفضاء وما يعنيه من انفراد بالذات واستشراف وانقطاع.. وفي الوقت نفسه، اتصال مع عصَب الكَون. فيلم "الرجل الأول" يحكي قصة إنجاز نيل أرمسترونغ، أول بشريّ يطأ أرض القمر، لكن ليس من دون جرحه العميق بعد وفاة طفلته التي كسرت علاقته ببقية عائلته وبالحياة نفسها. و"إنترستيللار" يعتبر الأكثر إثارة وجمالية تخييلية، بين نوع الأفلام الذي يستخدم سردية الفضاء الخارجي لاجتراح سيناريوهات خلاصية عن عالَم يفنى ويتداعى، سواء بالمعني السياسي أو الاقتصادي أو البيئي المباشر، ويتضمن الفيلم مَشاهد مبهرة للفضاء والكواكب والنجوم والممرات السرية بينها. حتى "ناسا" نفسها تجري مسابقات للأفلام القصيرة المُركّبة من صورها وفيديوهاتها، معترفةً بسينمائية أرشيفها، صانعةً سينما مما صنعته التكنولوجيا بدورها بوحيٍ نوراني من السينما... وكأنها دائرة من التحيّات، والردود بأحسن منها.

ولا يُنسى الدّين، سماواته صارت الفضاء الخارجي الذي تُستعاد فيه حكايات قياميّة، لعل أكثرها شعبية "أرماغيدون"، الفكرة التوراتية لصراع قوى الخير والشر في نهاية التاريخ، وقد صارت فيلماً نبوئياً للإثارة والتشويق، وبالمَرّة، لبروباغندا بروتستانتية أميركية أيضاً. وطالما الشيء بالشيء يُذكَر، لعله لا مفارقة في تلك الآرء الكاريكاتورية/الجدّية جداً التي ينشرها متدينون بخصوص صور "جايمس ويب" من قبيل أنه "لا شيء يسمّى نظاماً شمسياً لأن القرآن لا يأتي على ذِكره هكذا". فالدِّين يتقلّب بين أضلاع الكَون كقلب مُعتلّ. أما جدّتي التي لم تنس، حتى آخر أيامها، مَشاهد الهبوط على القمر التي رأتها في التلفزيون، فظلت تشكّك فيها وتنكرها باعتبارها، إن كانت صحيحة، فمعناها نهاية العالم، والعالم لم ينتهِ، فهي إذاً كذبة.. مجرد "أفلام بأفلام".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها