الجمعة 2022/07/01

آخر تحديث: 18:43 (بيروت)

لبنان السياحة...أو سقوط الجدار الرابع

الجمعة 2022/07/01
لبنان السياحة...أو سقوط الجدار الرابع
increase حجم الخط decrease
كل سياحة تحتوي على شيء من المسرح، أو ربما الكثير منه. من باريس الرومانسية، إلى لاس فيغاس الإثارة وهامش ارتكاب الحماقات حتى تكرست المقولة الشهيرة "ما يحدث في فيغاس، يبقى في فيغاس"... وصولاً إلى بابوا الإندونيسية حيث موطن شعب الـ"كورواي" الشهيرين بهندسة "بيت الشجرة" وبطُرق "عذراء" يُعتقد أنها تجسد حالة قديمة من إنسانية العصر الحجري وقبليّته، حيث تكامل وثيق مع بيئة الغابات المطيرة والعزلة عن ثقافة الاستهلاك والعولمة. وعبر الإعلام والسينما، وخيال راكمته مختلف أنواع الفنون طوال قرون، غالباً ما دُرّبت عيون السائحين ووعيهم على استبيان "القبليّة" في صور معينة، تركز بشكل خاص على غياب الملابس المصنّعة، ولعل الاحتكاك بهذه "التجربة" هو أكثر ما يبحث عنه السائحون ويتأثرون به في مناطق الكورواي. وكما هو متوقع، فإن المرشدين السياحيين، ومجتمع الكورواي نفسه، باتوا يمارسون عرض العريّ واللباس التقليدي كرمى لأنظار السياح، كما يحرصون على إزالة المواد المستوردة من المنازل عندما يكون معروفاً قدوم سائحين. في بعض الأحيان، يعرف السائحون أو يطلبون صراحةً تنظيم هذه المظاهر، أو أضعف الإيمان أنهم يستنتجون هذه المسرَحة. وفي كثير من الأحيان، لا يكون الزوار على دراية بالترتيبات الخاصة الموضوعة من حولهم، أو أنهم "لا يريدون أن يعرفوا"، كما يقول أحد المرشدين السياحيين في مقابلة... وإلا طارت اللذة المؤطّرة المكثّفة في كبسولة زمنية-مكانية هي في الحقيقة كل معنى السياحة.


المسرَحة مُلازِمة "طبيعية" للسياحة، بل إنها مطلوبة. مُتواطَأ عليها بين المُرسِلين من المقيمين والسكان الأصليين، وبين الوافدين المتفرّجين الساعين إلى كسر أكوانهم الصغيرة المألوفة لولوج فقاعة كَون جديد يفترض ألا تفرقع قبل انتهاء الإجازة. وحتى لو لم تُمارس المَسرحة عمداً وعن وعي، فإنها حكماً شكل العلاقة في لحظة الاحتكاك السياحي، تؤثر في الطرفين معاً. حتى السياح الباحثين عن "الأصالة"، عن تجارب اندماج مرحلي، حقيقية، بلا "زيف" ولا اصطناع، لن ينجوا، كما مضيفيهم، من فكرة لا مفرّ منها: أن السائح، مهما حاول، طارئ على المشهد، من خارجه. ومُستقبِلوه أيضاً، بمرور الوقت وتكرار الاحتكاك، سيولّفون مواسم و"نظاماً" ثقافياً واقتصادياً مرتكزاً، بهذه النسبة أو تلك، على حلول الزوار بينهم.

في مراحل ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية، ومرحلة السِّلم القصيرة بعدها، ثابر لبنان على إنتاج مسرحيات سياحية ناجحة. ليس فقط لأنه امتلك، لبرهة مأسوف عليها الآن، مقوماتها وبُناها التحتية. بل لأنه أيضاً امتلك البعض الكثير (المتناقص بتوالي الأحداث المريرة) من أصالة ما يروِّج له في الإعلانات: ما تبقى بوفرة لا بأس بها من طبيعة متنوعة بين جبال وشواطئ، المطبخ، الترفيه، الفعاليات الثقافية والاحتفالية، والأهم من هذا كله: انفتاحه وتسامحه النسبي، وأمنه وحرياته، زهو وحياة ليسا مُفبرَكين بالكامل، حد أدنى من الضبط القانوني والدولتي للغش والاستغلال ونظافة المنتجات العينية والمعنوية، وكونه إلى حد كبير مركزاً جامعياً واستشفائياً وإبداعياً و"ديموقراطياً" في محيطه. إضافة إلى اشتراك المقيمين أنفسهم في الحفلة الكبيرة، بقدرات اقتصادية معقولة وبمستوى ما من الاستقرار والسوية النفسية والاجتماعية... وهذا، ككل ما ميّز لبنان ذات يوم بعيد أو قريب، اندثر وانهار وأصابته رثاثة مضنية.

لبنان السياحة، هذا الموسم، في النصوص الترويجية الرسمية، ومن خلفها سائر القطاعات السياحية والتجارية والإعلامية الشريكة، مغترب عن كواليسه، لا بل منفصم. ولا داعي لتعداد المغالطات التي يعرفها الجميع: من الطبيعة المضروبة -إلا ما رحم ربي- بالنفايات والتلوث والحرائق، إلى موات الثقافة والترفيه والاستشفاء والإبداع -إلا لطبقة محدودة وضئيلة جداً من المقيمين. من دون أن ننسى كل أنواع الشحّ، الخبز والمحروقات والكهرباء والاتصالات، والتي تناقض المشهد المسترخي السعيد الوافر، فتكسر "الجدار الرابع" بمجرد فتح الستارة المهلهلة. مروراً باليافطات المرحِّبة التي تحاول بيروت ارتداءها بدءاً من طريق المطار، بعدما نحّت جانباً، بالتراضي والتوسّل وطبعاً بشكل مؤقت، لوحات قاسم سليماني وحسن نصرالله.

مثل صبية ثكلى منكوبة، بيروت، تُكابر وتتزين لعريس من ديار حُلُميّة لا يعرف/لا يريد أن يعرف شيئاً عن مصابها، تروقه في صورها المتقادمة ومهرها في مقدوره.

أما المغتربون، وغالباً المهجّرون قسراً من وطنهم الذي يعودون لزيارته وأهلهم فيه، فهؤلاء هم القطع المتحركة من بازل الأصالة الأولى، بعض رأس المال المفقود، كما الودائع في المصارف وأموال خزينة الدولة وقيمة الليرة... وهم أيضاً جزء لا يتجزأ من "الأصالة" الراهنة، بتحويلاتهم المالية إلى الداخل وشنط الأدوية والملابس والمواد الاستهلاكية التي يجلبونها معهم. هؤلاء يدركون اللعبة، ويسايرونها راغبين أو مرغمين. البلد الذي طردهم، يغازل الآن، مثل الحواة، دولاراتهم الطازجة، وهم يماشونه من أجل حنينهم إلى الزائل الذي تركوه خلفهم وربما يريدون أن يقتفي أولادهم أثره، ومن أجل أحبّتهم الذين يريدون حمايتهم -ما استطاعوا- من الزوال.

وفي هذه الأثناء، يدور مرشدون سياحيون على اللبنانيين، يحاولون إسكات "الأحاديث السلبية"، يهيئون المسرح بالصور في انتظار أن تخرج القبيلة بلباسها التقليدي المُنتظر: تبولة وسهر وسباحة ومهرجانات، لكنهم في زحمة انشغالهم، فلتت منهم الإنارة والمياة النظيفة، والدولار بكل الأسعار، ومحطات "أوجيرو" المسروقة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها