الجمعة 2022/04/08

آخر تحديث: 18:06 (بيروت)

العثور على البزّاقة الهاربة من "أمن الدولة"

الجمعة 2022/04/08
العثور على البزّاقة الهاربة من "أمن الدولة"
أمين سلام وعباس الحاج حسن في سوق الخضار في بيروت (عن صفحة نبيل اسماعيل في فايسبوك)
increase حجم الخط decrease
تبدو الصُّور التي صدّرها لبنان، خلال الساعات الـ24 الماضية وحدها، كفيلة باختزال أحواله. لا كدولة فاشلة، ومجتمع مأزوم، وحالة مأسوية إلى حد الكاريكاتور فحسب. بل كلعبة-أحجية، "بازل" مستحيل، أو مكعب "روبيك" ذي الألوان الستة المبعثرة في جدرانه وزواياه القابلة للفّ والدوران بلا طائل. إنه النوع الذي يبقى مفتوحاً على معضلته، بلا حل أو ترتيب أوّلي حتى. هكذا فقط، لكسر اللاعب وتحطيمه، فيما الأخير يصرّ ويزايد على نفسه، فيروح يركّب القطع عنوة، يحشرها حشراً، مكابراً حتى يستخدم الجزيئات كلها، لينتهي إلى صورة مكتملة التشوّه، والشاطر مَن يحزر ما يرى.


وزيرا الاقتصاد والزراعة في "كبسة" على سوق الخضار المركزي في بيروت، للتحقق من الأسعار بعد شكاوى عن أرقام خيالية، مصحوبَين بعناصر "أمن الدولة" منفوخي العضلات والمدججين بالسلاح وجُعَب الذخيرة. فمحبة الناس، بائعين وشارين، عارمة، ومن الحب ما قتل، والاحتياط واجب... وما هي إلا ساعات بعدما تنشّق الوزيران باقات البقدونس وفرفدا أوراق الخس وتحسسا البطاطا، حتى عاش سكان منطقتي طريق المطار وبئر حسن، حرباً صغيرة ، بين عائلتي المقداد وحمية، بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة التي سُمعت أصداؤها في وسط بيروت، حتى وقت متأخر من الليل. ولم يظهر في ساحة الوغى أي عنصر في أي بدلة مرقطة من أي لون. لم يتدخل أحد، لا هذه المرة، ولا عشرات المرات قبلها في جُزُر محيط المقاومة الهادئ. ثم فُتحت النيران في جبهة مصغرة موازية، لكن بالأفراح هذه المرة، إذ انطلقت رصاصات الابتهاج في محيط مخيمي البرج وشاتيلا ابتهاجاً بالعملية الفدائية الأخيرة في تل أبيب.

وقبل أن تغرب الشمس، تكلل هذا اليوم النموذجي بخَبَرين، بطلهما رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي بشّرتنا مجلة "فوربس" بأن ثروته زادت 700 مليون دولار، وفرحنا له كثيراً. فما الذي يريده واحدنا أكثر من أن يرفع رأسه بين الأمم برئيس حكومة ناجح، يُمسي التراب بين يديه ذهباً... فيما احتياطي الذّهب في "مصرف لبنان" يُحصى للمرة الأولى منذ الحرب الأهلية، في ظل خشية من أن يصبح إسماً على مسمّى فنقول: ذَهَب الذَّهب؟ على الأقل، يمكننا أن نتغاوى بِشَعر رئيس حكومتنا، أي برصيده الملياري زائد 700 مليون، فنستعيد بعضاً من العنفوان والطمأنينة التي صادرتها/أنفقتها المصارف والدولة سوية، مع ودائعنا. والرجل، للأمانة، لم يَغِب أو يختبئ، كما يفعل الفائزون باللوتو هرباً من السائلين والمحتاجين وأصحاب المشاريع التي لا أحد يريد تمويلها. بل خرج إلى الناس، ودائماً في النهار المجيد ذاته، ليعلن توقيع التفاهم المبدئي مع صندوق النقد الدولي. كأنه يريد أن يفرحنا معه. فإن لبّت الدولة اللبنانية شروط الصندوق، فستحصل على قرض بثلاثة مليارات دولار، والتي تشكلُ أرباحُ "لوتو" الميقاتي، رُبعها، والكلام فقط عن حبة الكرز فوق كعكته هذا العام، والتي نتمنى من قلب القلب أن تكون في ثلاجة آمنة خارج الصحارى المصرفية اللبنانية.

إذن، "أمن الدولة" مع وزيري الخضار، والأمن والدولة غائبان عن حارات كل من سلاحه له. صندوق النقد ينشر بياناً يتضمن شروطه الإصلاحية التي يشكك ضمناً في قدرة أو رغبة المسؤولين اللبنانيين في تنفيذها، لتبقى المليارات القليلة الموعودة غيمة صيف انتخابية، فيما مئات ملايين الدولارات المتطايرة من صفحات "فوربس"، تشعل مخيلات اللبنانيين الحائرين بين أسعار الصرف المتوالدة كالأرانب، لكن تطمينات الحكومة تهدئهم قليلاً: لا أزمة خبز، ستأكلون خبزاً ولم يحن موعد البسكويت بعد، ولا بد لتجار البصل من الالتزام بتسجيل الفواتير في الدفاتر، وكله بالأقلام والأوراق... الأوراق التي لا يجدها طلاب الجامعة اللبنانية لإجراء الامتحانات... والفواتير التي تأتي للأذهان بمغارة كهرباء لبنان والأكثر بكثير من أربعين صاحب مولّد صارت فواتيرهم خوّات.

إنه "البازل" المدهش، حيث القطع لا تتلاءم، لكنها تتراكب. والصورة ليست كُلّية العبث، فإن دقّقنا النّظر، سنتبيّن طائر الفينيق هنا. فهذا منقاره مكان ذيله. وهذان جناحاه، واحد طولي بدلاً من العنق، والثاني عرضيّ محلّ الظَّهر. كما يجوز للبزاقة الهاربة من مُرافقي الوزيرين أن تكون إحدى عينيه. وإن ركّزنا أكثر وشذّبنا حواسنا، ربما نشمّ الرائحة النفّاذة للرماد الذي، على الأرجح، ليس رماداً. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها