الخميس 2022/04/14

آخر تحديث: 12:08 (بيروت)

ساهر في غير مكانه

الخميس 2022/04/14
ساهر في غير مكانه
صرخة ادوارد مونش
increase حجم الخط decrease
أدخل منزل أحد الأصدقاء لقضاء سهرة اعتياديّة. ثمّة أشخاص أعرفهم معرفة سطحيّة، وآخرون لا أعرفهم البتّة. علاقتي بهذه العائلة، كما كل علاقاتي، رجراجة متأرجحة، وأبذل جهداً خارقاً كي لا ينقطع هذا الخيط الذي يربطني بها. أحتار بدايةً أين أريح جسدي، الذي يفضحني من فوره بارتباكات يبديها عندما نكون في الخارج، في مكان لا يعرف أين وكيف يتموضع فيه، فهو يريد أن يكون خفيفاً، رغم سمنته، وألاّ يتسبّب بالازعاج لأي من الجالسين قربه.

وتكون المشكلة أكبر، إذا ما صادف تموضعَه، جلوس امرأة بقربه. يحاول جسدي الانكماش إلى أقصى ما فيه، عندها، ولشدّة التّوتر، يبدأ القولون العصبيّ بالتّقلص ويسبّب ارتباكات في المعدة، مصحوبة بتراكم غازات لا يمكن لها أن تخرج طبعاً في ظلّ هكذا أجواء محيطة، الأمر الذي يجعل أوجاعي تمتد أيّاماً طويلة بعد هكذا سهرات.

المشكلة تكمن، وكما خبرتها بعد طول سنين، في المشاركات الاجتماعية. ومردّ هذا الإنكماش الأوتوماتيكي لجسدي، الذي بات تفاعله سلبيّاً تلقائيّاً، هو الخيبات التي حصدّتها جراء محاولاتي الحثيثة والدّؤوبة لأكون عنصراً مشاركاً وفعّالاً في مثل هذه السهرات. والخيبات تأتي من عدم تجاوب الناس السّاهرين مع ما أبديه من ردود على أفعالهم أو نكاتهم أو تعليقاتهم، وكأنّي بهم يقولون، أنها خارج سياق الحديث المطروح. هكذا ببساطة يتجاهلون ما أقوله، ويتجاوزونه بفتح حديث آخر. أبادر من فوري إلى طرح ردّ فعلي من زاوية جديدة، علّهم لم يسمعوا تعليقي أو لم يعيروه اهتماماً بسبب الضّجيج المحيط بالجلسة، أيضاً وللمرّة الثّانية يتجاهلونني. أحاول لفت الانتباه، لكن عبثاً، مصرّحاً في سريرتي: عار هذا الذي يجري، معيب لهم ولي، أن تتجاهل إنساناً وحديثه في سهرة دعوته بنفسك إليها. عندها أشعر أنّني من دون ثياب، في حالة عُريّ تام، أشعر بالفضيحة وأتلفّت حولي، لأتبيّن إن كان ثمّة أثر لفعلتهم على وجوههم، لكنّهم جميعاً يبدون منشغلين بالسّهرة وبأحاديثها، ولا يبدو عليهم أنّهم منتبهون لما تسبّبوا لي به.

أصمت، أحاول مداراة فضيحتي بفتح حديث جانبي مع مَن يجلس بجانبي، جاهداً كي أكون مهذّباً ومسلّياً ومضحكاً، يهزّ من وجّهت له كلامي، رأسه، وينظر في وجهي، ثم يعاود الإنشداد إلى مجرى الحديث الرئيسي مع بقيّة السّاهرين.

عندها أنتفض غاضباً، وأقف من فوري، معترضاً صارخاً بأعلى صوتي، محاولاً اختراق ضجيج الضّحكات المتبادلة والموسيقى الصّادحة، كي أكون مسموعاً من قبل الجميع، لكن عبثاً. فأدخل في حالة خدر بفعل اندماج خطبتي مع مجريات السّهرة، وكأنّها حدث واحد، تماماً كما لو أنّي بين اليقظة والحلم. ما هذا الشيء الذي تفعلونه؟ لماذا دعوتموني إلى سهرتكم طالما أنكم ستتجاهلونني وكأني لست من السّاهرين معكم؟ ولماذا تهينون إنسانيّتكم قبل أن تهينوني؟ لماذا دعوتموني إلى السّهر معكم، إذا ما كنتم ستجرّدونني من آدميتي؟ إنّه شعور مخزٍ، وجُبن من قبلكم. إنّها إهانة لنا جميعاً.

أدخل في حالة صمت وأنا واقف، محاولاً الإصغاء لردود أفعالهم، ومعرفة مدى تأثير خطبتي فيهم، فلا يحصل شيء من كل ما توقعته. يمسكني الشّخص الجالس بقربي بمرفق يدي، ويضغط عليها من دون أن يلتفت ناحيتي، ومن دون أن يقطع اندماجه بالسّهرة، فأعتقد للوهلة الأولى، أنّه يريد أن يحدّثني عن خطبتي فور تأكده من جلوسي بقربه مجدداً، إلاّ أن شيئاً من هذا لا يحصل، فالسّهرة تستمر في جريانها الطّبيعي. فأشعر عندها أن المكان يحاصرني، ويتولّد لدي شعور بالكراهية نحوه، وبالهشاشة والضّعف.

أحاول المكوث مدّة أطول كي أداري ما أشعر بأنّه فضيحة، وأنّي مثلهم، ولم ألحظ أي إهانة وجّهت لأيّ منّا، وأنّ كلّ شيء طبيعي، والسّهرة جميلة، يسودها الحبّ والتّفاهم والوئام. ثم أغادر بعد أن تعلن غازات معدتي أنّها لم تعد قادرة على تحمّل المزيد من الإرباكات، وأنها تنتظر تنفّس الصّعداء الّذي أتحيه لها فور مغادرتي عتبة باب الأصدقاء. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب