الثلاثاء 2022/12/20

آخر تحديث: 13:52 (بيروت)

كيف نعرف حقيقة التنوير؟!

الثلاثاء 2022/12/20
كيف نعرف حقيقة التنوير؟!
سبينوزا
increase حجم الخط decrease
"كل وحدة واقعية وحقيقية هي مرض في أفكارنا"
(بيسوا- من كتاب بول فاين "هل اعتقد الإغريق بأساطيرهم؟")

إن السبق الذي أحرزه سبينوزا في فلسفته المبتكرة، والتي جعلت أعداءه أكثر من أصدقائه في القرن السابع عشر، أي في عصر الظلمات الذي كان يجتاح أوروبا، والتي جعلته كالريح التي تأخذ معها كل من يقرأها حتى لو لم يفهمها بالكامل، كما جاء في مقدمة كتاب "سبينوزا فلسفة عملية" لجيل دولوز، أن الوعي فينا لا يدرك حين يصطدم جسم بجسم آخر، أو فكرة بفكرة...

إن ما يدعونا إلى مثل هذه المقدمة، هو الجدالات التي وجدناها في عدد من الكتب التي تبحث في أسباب وعلل نشوء حركة التنوير في أوروبا، رغم تواضع عددها بين أيدينا وما قرأناه ناقصا أو كاملاً. فقد لاحظنا أنها محل انتقاد من قبل كارل بوبر في كتابه "المجتمع المفتوح واعداؤه"، خصوصاً في الفصول الأولى منه، تلك التي تنقب عن الأسباب والعلل المسماة نظريات تاريخانية والتي يفضل عليها المناهج والمذاهب التي تبحث في سبل تطوير ما هو موجود من دون إعارة الاهتمام إلى ما يشغل النظريات التاريخانية. ففي كتاب "التنوير متنازعاً فيه" لجوناثان-اي-ازرايل، يبدو المسعى واضحاً لإعادة التجديد في مناهج قراءة التاريخ مع محاولة الاستفادة من العديد من المدارس التاريخية الجديدة، خصوصاً تلك التي برزت في عقد الستينات وبعده من القرن المنصرم، ومحاولة التوليف في ما بينها، وليس أقل من إعطاء ومنح الفكر وجدالاته دورهما وأثرهما في ولادة حركة التنوير الرائدة في طرح أفكار ثورية، لا سيما مسألة الحرية والمساواة وغيرها من الشعارات والقضايا المهمة التي كانت أوروبا محرومة منها.

أما الكتاب الثاني، فهو "أزمة الوعي الأوروبي" لبول هازار، والسنوات التي يؤرخ لها هي ذاتها سنوات التنوير وبداياته. إلا أنه يفضل أن يعرّف عنها بأزمة وعي كانت تعيشها أوروبا في تلك السنين، وإبدال القديم بالجديد على صعيد القيم والأفكار. يُلاحظ، عند المقارنة بين الكتاب الأول وهذا الكتاب، أنهما يؤكدان سوياً على الأحداث ذاتها، وتعريفاتهما لبعض العلاقات القائمة بين بعض دول أوروبا، وتأثيرهما المشترك. مع فارق أن مؤلف "أزمة الوعي الأوروبي"، وهو عضو في الأكاديمية الفرنسية، يفاخر بحيوية أوروبا وأفكارها وأسبقيتها في هذا المجال، خصوصاً أنها تقود حضارة أوروبا قدماً وإلى الأمام دوماً.

إن هذين الكتابين يحاولان، كما يظهر، إلقاء القبض بلا هوادة أو كلل وملل، على الأسباب والعلل التي سببت حركة التنوير أو التبدلات في حركة الوعي آنذاك. فيما، على الضفة الأخرى، ثمة المفكران الألمانيان من مؤسسي مدرسة فرانكفورت، وهما أدورنو وهوركهايمر، اللذان نظرا إلى التنوير من زاوية أخرى تماماً. ففي كتابهما المعنون "جدل التنوير"، نظرا إلى التنوير الأوروبي ومنطلقاته الفكرية والعملية، بوصفه وريث الأساطير والخرافات الإغريقية ويحاكيها تماماً في الأسباب والنتائج العملية التي ظهرت جراء هيمنته على عادات التفكير والممارسة في أوروبا.

أمام هذه الفوضى العاجزة عن الكشف حقيقة التنوير، إن كان تقدماً أو تأخراً، سيراً إلى الأمام أم تقهقراً إلى الخلف، كيف لنا أن نعثر على الحقيقة؟ حقيقة ما جرى وما يجري، أكان تنويراً أم شأناً آخر، أو أي حدث وقع فعلاً أو سيحدث. وبالتالي، هل مفروض علينا أن نعود إلى ما قاله سبينوزا عن أن وعينا لا يستطيع سوى إدراك الآثار لأي حدث بمعزل عن فهم حقيقة ما جرى حقاً، إذا ما تلاقحت أو اصطدمت فكرتين أو جسمين كما ذهب سبينوزا وأكد بيسوا في جملته القصيرة جداً والمعبّرة؟ أم نذهب إلى الفقرة الواردة أيضاً في كتاب "هل اعتقد الإغريق بأساطيرهم" والمنقولة من كتاب ميشال فوكو "نظام الخطاب" والتي تقول "من المؤكد أن نصيب الكلام من الحق والباطل لا يكون كيفياً ولا قابلاً للتعديل إذا ما تموضعنا على مستوى جملة معينة ضمن خطاب معين، بل إذا تموضعنا على مستوى آخر، أي إذا ابتغينا معرفة ما كانت عليه بل ما تكون عليه دائماً تلك الإرادة الباحثة عن الحقيقة والتي عبرت عصوراً كثيرة من تاريخنا".

إن فوكو، في رأي دومينيك جانيكو، وضع هذه الـ"إذا" لأنه يعطيها أهمية بالغة تكمن في إتاحتها اختيار سلّم قياسي آخر... لأنه يرمي إلى توسيع أفق النظرة، أولاً وأخيراً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب