الأربعاء 2022/11/23

آخر تحديث: 15:56 (بيروت)

موت التواضع

الأربعاء 2022/11/23
موت التواضع
increase حجم الخط decrease
لقد تغير الزمن وتغيَّرت قوانينه، خصوصاً تلك التي تُعنى بالثقافة والفكر والمهن، إذ ما عاد أصحابها يتوانون عن تقديم أنفسهم للآخرين كي يتعارفوا، أو لتقديم أعمالهم على إختلاف تنوعها أو اختصاصاتها من دون أن يسبقوها بصفاتهم عرباً أو أجانب.

ما عاد أحد بلا صفات، تيمناً بكتاب روبرت موزيل، فبعض الكُتَّاب يذكرونك أكثر من مرة في مقدمات كتبهم بكونهم فلاسفة أو شياطين يريدون شيطنة أو تحريك الماء الراكد أو مستنقعات ما يخوضون فيه تفكراً، من دون حياء او خجل مما قد يؤخذ عليهم من غرور وتشاوف. وهو أمر لا بد أنه سيؤثر في معالجاتهم لما يتفكرون فيه سلباً، خصوصاً متى لمستَ َهذا التأثر السلبي عبر منحك للكاتب فرصاً من مئتي صفحة قراءةً في كتابه ولا تجد فيه شيئاً مما يدعيه من شيطنة.

هل هي الوسائط أو الميديا، كما تُوصف، آثارها لدرجة أن أي أحد أجرى أو دبّج مقالاً عن حرب أو اشتباك بين منطقتين، وقّع مقالات اختصاصه بخبير حل النزاعات.

بتنا نضيق ذرعاً بالصفات وتضخم الأناوات وهي منتشرة كالفطر في كل المعمورة، حتى أن بعض الزعماء الصغار في بلادنا يوصون من يعمل لديهم بمناداة أبنائهم بصفاتهم التي حصلوها في التعليم قبل أسمائهم، رغم أن هؤلاء الزعماء كانوا يُنشئون حزباً تلو الآخر تحت شعارات العدل والمساواة، أو اختصاراً كانوا منشغلين بتنوير بلادنا وشعبنا. وهذه الصفات ينشدها الجميع بلا حياء، من السارق الى الفاسد الى الزعيم، وكل من تَسَيّد في مجاله ولو على حساب القيم والأخلاق، وحتى الدماء التي سالت في سبيل ما يزعم من صفات. لم نعد نلمح تواضعاً لدى أي كان، وأن صودف أن وُجد شخص بغير صفات أو لا يطمح لأي منها، يعامل معاملة الذل والتحقير.

هذا العالم جن وخرج عن طوره، وما عادت تُسَيِّره القوانين والأخلاق وبات أي حقير ترفض صداقته أو أي علاقة معه حتى إلقاء التحية، لا يتوانى عن أحَط الطرق والأساليب ليجعلك ترضخ بردّ السلام عليه أو الجلوس معه في المكان ذاته. مجتمع كلما رفضت الإنخراط فيه، تُكثر من زياراتك لطبيبك النفسي الذي يؤكد لك أنك لا تشكو من شيء وأن المجتمع الذي تحيا فيه ويحيط بك يلزمه علاج وعلاج طويل جداً. أين تتجه وكيف تسير والى أين تُيمم وجهتك؟ بالإنزواء في غرفتك صُحبة الدواء والكتب والقهوة وزجاجات البيرة؟ أم تقوم بما قام به هولدرن، الشاعر الالماني الذي جال سيراً على الأقدام مجتازاً بلاده من ولاية الى أخرى عله يصادف إنساناً في تجواله كي يتأكد من بطلان مقولته الشهيرة أنه لم يعد يجد إنساناً بل أصحاب صفات ومهن؟

وانَّى لك أن تجول في هذه البلاد متقطعة الأوصال وسكانها يرتعبون خوفاً من كل زائر غريب، إذ أن الأرض ما عادت مشتركة، كما ذكر أحمد بيضون في مقال من مقالات كتابه "كلمن"، إذاً حظوظك ليست كحظوظ هولدرن في حرية التنقل.

كخلاصة أخيرة بما يثقل عليك التفكير فيه، أن تنزوي وأن تقطع الوقت بين اتجاهين، مقهى لا يَبعد عن سكنك عشر دقائق، ومنزل لأحد أقربائك في الاتجاه المقابل، علَّ الحياة تُكمل دورتها كالمعتاد أو على ما اعتدت عليه ناسياً وساهياً في أي بلاد أو أي مجتمع تعيش.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب