الثلاثاء 2022/04/12

آخر تحديث: 19:16 (بيروت)

الشراء الآن الآن..وليس بعد قليل!

الثلاثاء 2022/04/12
الشراء الآن الآن..وليس بعد قليل!
من عروض "شين" في ولاية كاليفورنيا الأميركية (غيتي)
increase حجم الخط decrease

في بريدك الإلكتروني، في انزلاقة "النيوزفيد" الخاص بك في "فايسبوك" و"انستغرام" وسائر الغابة الاجتماعية الكثيفة، وحتى في الرسائل النصية sms على هاتفك الخلوي مباشرة.. الإعلانات لا تتوقف. من كل صنف ولون و"حاجة": أدوات منزلية والكترونية، أثاث، شقق، ألعاب أطفال... لكن الأكثر إثارة وجذباً تبقى إعلانات الملابس والإكسسوارات. جديد، مستعمل، "vintage".

لسنا مستهدفين بالضرورة لأننا زبائن كثيري الشراء الإلكتروني، ولو أن جائحة كورونا وفترات الحجر المنزلي فجّرت سلوكيات جديدة في التبضع عبر الإنترنت، وعزّزت ووسّعت ما كان مُمارساً بالفعل. يكفي أن تشتري من متجر وتزود البائع برقم هاتفك أو بريدك الإلكتروني، لدواعي إصدار بطاقة "الزبون الوفي" (المفيدة والحق يقال)، حتى تنهمر الصور والباقات من كل حدب وصوب. والأهم، الخوارزميات التي تتتبع خطواتك في الانترنت. تعرفك أكثر من أمك، من زوجك/زوجتك، وحتى من نفسك.

"الأرجح أن يعجبكِ هذا الفستان"، يقول الإعلان بين سطوره وفي ثنايا الصور، "أنتِ، نعم أنتِ، ولا أحد سواكِ، فذاكرتنا لا تخطئ، نتذكرك ونحفظ ذوقك، من أجلك وحدك، لأنك مميزة، بين ملايين المميزين لدينا، وقد سبق لك شراء هذا الستايل، أنظري هنا، تعالي وانظري فقط، لا ضغط للشراء، لكننا نحبك ونفكر فيك واستحلينا لك هذه القطعة، وانظري السعر!". والكلام لا يكون للفتيات والنساء وحدهن، بل للرجال والفتيان أيضاً. لكنني أورده هنا كما أسمعه في رأسي، كلما لم أستطع مقاومة الفرجة، وهي للحقيقة مبهجة وترفيهية ومُسكّنة لمصادر التعب اليومي. استراحة قصيرة للهرب إلى عوالم جميلة، مسترخية، فيها صورة لي لا أراها دائماً في المرآة، وصورة لعالم لا أتوقف كثيراً في الشارع أو حتى أمام التلفزيون لرؤية تفاصيله. أناقة، فرح، أمزجة متنوعة، وإقبال على الحياة – حرفياً – بمعنى أن ثياباً جديدة زاهية ستزيد من قابليتك لخلع البيجاما والخروج من البيت إلى أي مكان وكل مكان لتفعل شيئاً يشعرك بكيانك الحي... أو أنها النتيجة المتخيّلة والمشتهاة على أي حال.

لهذه الحالة إسم: الموضة السريعة. الشراء بغمضة عين وجرّة بطاقة مصرفية، وما هي سوى أيام معدودة حتى يصلك الطرد البريدي فتفرح بفتحه كطفل في عيد ميلاده.

ليست فقط حالة تجارية استهلاكية، ولا فقط حالة نفسية أو سلوكية، هي هذا كله وأكثر. والأكثر هذا بات أكبر مما كنا نتخيل، بأبعاد اقتصادية وبيئية واجتماعية، جيليّة وطبقية وثقافية. موضة الصور والمشاركة وأن تكون مرئياً، أو على الأقل أن تريد ذلك. بضائع رخيصة، ملونة، مرحة، سيكسي، أو كلاسيكية بروح "شانيل" وكلفة سوق الأحد. توظّف الرائج من تصاميم "أزياء الشارع" ومظاهر الاسترخاء في البيت، "لوك" السهرة والمكتب، وهيئة العطلات وأوقات العائلة، ويوميات الأفراد من طلاب الجامعة إلى مَن غزوا أربعينياتهم مستقلين. ملابس داخلية وخارجية، أحذية وشنط وحليّ، من النوعية التي تخوّل الواحد(ة) منا تغيير نفسه(ها) بالكامل كل أسبوع، بكلفة معقولة جداً. وباتت تجد من ينظّر لها باعتبارها تتصدى بأسعارها للإقصاء على أساس الطبقة الاجتماعية، وأيضاً على أساس مخاطبتها أصحاب/صاحبات المقاسات التي لا تنضبط في المعايير التقليدية. صُورها منوعة جندرياً وعرقياً وعُمرياً وبكامل أطياف الجسد وأشكال تضاريسه... والمؤكد أنك ستجد "مواصفاتك" الذاتية في غالبية الصور... فأصدقاؤك الذين لم تخترهم واعياً بالضرورة، دائماً هنا، مثل ظلّك. هي الخوارزميات فائقة الذكاء والحساسية اتجاه "عيشك" الافتراضي. صُورك الشخصية تنطبع في القلب الرقمي. تحركاتك، مشترياتك وأنماطها، ألوانك، استدارة خصرك. لا شيء يُنسى أو يضيع في الإنترنت.



وإن كانت السوشال ميديا هي الداء، ففيها أيضاً الدواء، أو فلنقُل سلاح المكافحة، وإن كانت المكافحة نفسها تُكمل استدارتها لتعود وتصبّ (مع انتباهك وأموالك) في منبع الغواية الأصل... الشراء السعيد.

ما زالت متوافرة المساحات المتسعة للنظريات الغاضبة المعهودة عن ثقافة الاستهلاك الخبيثة، ووهم تحقيق "السعادة" بإنفاق المال، وربما شراء ما لا يلزم. لكن الحقيقة التي نعرفها جميعاً، ونطبّقها بدرجات متفاوتة من الوعي والكبح/الاسترسال، أن الشراء يجلب فعلاً شيئاً من الرضى، يذوّب مزاج يوم سيء وصولاً إلى تلطيف بعض عوارض الاكتئاب. الأكثر إثارة للاهتمام، وبصرف النظر عن الرضى أو الصراع مع التريند، هو محاولة فهم ديناميات هذا العالم المتشابك من الرغبات والتهويمات، مع السلوكيات الفردية والجماعية، واقتصاد هذا السوق الهائل.

الأرجح أن كل من اشترى يوماً ثياباً عبر الإنترنت، لا بد أن صادف في "فايسبوك" وسواه إعلانات شركة "شين" Shein، الآلهة الجديدة للموضة السريعة حول العالم، وصورها التي تناديك لاستراحة تصفحها كما تغني الحوريات للبحارة في الأساطير القديمة لاجتذابهم إلى جزرهن.

تُقدّر القيمة الإجمالية للشركة ذات السبعة آلاف موظف ومقرها الصين، بـ100 مليار دولار، أي ما يوازي شركتي "زارا" و"H&M" مجتمعتين. وارتفعت أرباح "شين"، من ملياري دولار العام 2018، إلى 15,7 مليار دولار في 2021. والعدّاد دوماً شغال أسفل الشاشة بالساعات والدقائق، لفترات العروض الخاصة، فعليك أن تشتري الآن الآن، وليس بعد قليل! ويا لحظك التعس إن كنت ممن يرتدون الكنزة نفسها مرتين. فهذا عصر الصورة الشخصية-العامة. "الجيل زيد" (مواليد 1997 – 2012) رائدنا، متقدّمنا، وكلنا يقلّده، أو يحاول. وكيف يسعك أن تنشر صورتين ترتدي فيهما الثياب نفسها؟ الحل: إشترِ أكثر، ولضبط الميزانية، عُد إلى السوشال ميديا. في تطبيق Depop، تنشئ حساباً خاصاً بك، وتنشر صور ثيابك للبيع، وهنا أيضاً ستتمتع بالمتابعين والمتفاعلين، ويمكنك أن تشتري هنا بدورك شنطة "لوي فويتون" أو قميص "امبوريو آرماني" بأرخص سعر. إنه زواج E-bay وانستغرام. وفي Depop نجوم أيضاً، مثل مشاهير "تيك توك" الذي يزخر أيضاً -بالمناسبة- بفيديوهات أشخاص يتلقون علب طلبيات الملابس ويفتحونها على وقع الإثارة والتشويق واستعراض مشترياتهم للـ"فانز". 



ها هي ميزانيتك تعيد تدوير نفسها. تبيع القديم وتشتري القديم أو الجديد، فتريح ضميرك المالي. وثمة صفحات تتيح لك شراء الأزياء الصديقة للبيئة، فتريح ضميرك الإيكولوجي. فيما تبقى قضايا استغلال العمال وعمالة الأطفال في الظل، ولعل المستهلك "زيد" الذي يُقال إنه الجيل الأكثر التزاماً بالتسوق "النظيف"، يرد في الحال: أعطني معلومة مؤكدة، فأقاطع، أنا متسوّق واعٍ، اتّخذ قرارات وخيارات... وتتساءل إن كان الشاب والشابة اللذان لا تفوتهما موضة "الصواب السياسي" وأخلاقيات الكوكب والمناخ، يعلمان أن صنّاع الموضة أدركوا أخيراً حجم سوق إعادة البيع وتوسّعه، بحيث أنهم باتوا يستثمرون في بعضه، أو يدخلون كشركاء مع أيقونات موقع Depop وغيره ممن يحظون بالعدد الأكبر من المتابعين... ولا تستطيع أن تكون متأكداً تماماً إن كانا سيمانعان استخدام "شين" لوحات فنانين معاصرين، من دون علمهم أو شراء حقوق الملكية الفكرية، لطباعتها على بلوزات وفساتين بسِعر البطاطا.

هو التسويق الإنترنتي الذي جعل "شين" تطيح "أمازون" كأكثر تطبيقات التسويق تنزيلاً في الولايات المتحدة نفسها. والمعلومة الأكثر إثارة للاهتمام أن 6% فقط من مخزون إنتاج "شين" يبقى محفوظاً لأكثر من 90 يوماً. فهي تنتج ما بين 50 و100 قطعة فقط من كل موديل، فإن حققت مبيعاتها ونفدت، أنتجت منها المزيد، وإلا فإن التصميم يُلغى على الفور. أي أن سلوكنا كمتبضّعين يؤثر مباشرة في خط الإنتاج. نحن المصممون الفعليون، ولا بائت في الموضة الجديدة! هكذا تشحن "شين" الطلبات إلى 250 دولة، وهو ما يجعلك تفكر بيئياً، في انبعاثات ملوثة في كل اتجاهات الأرض، ولم نتحدث بعد عن البضائع المُرتجعة التي غالباً ما تنتهي إلى المطامر، بكل نايلونها وبلاستيكها والبوليستر، إذ أن كلفة إعادتها للتداول تتخطى كلفة إتلافها. ولماذا العناء؟ خيّطوا غيرها بالمئات في سُوَيعات... الموضة السريعة لا تتباطأ لأحد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها